ـــ ولكن …؟!
اتسعت حدقتا أحمد في ظلام الغرفة الرطبة، وهو يحدق نحو الموت الذي تجسد أمامه على هيئة قبطانٍ قديم بجلبابٍ أسود.
علقت الكلمات في الحنجرة مفسحة المجال للهواء الذي يدخل بارداً إلى رئتيه الصغيرتين ويخرج حارقاً .
ابتسم القبطان وهرّت الكلمات من فمه كأنها قطع جليدٍ متكسر : هيا بنا .. ستكون رحلة ممتعة أؤكد لك .
ألقى أحمد نظرات خاطفة على أمه وإخوته الأربعة المحشورين بجانبه ثم فرت بعض الكلمات الحبيسة في حنجرة الصغير هاربة بين الأنفاس المتقطعة:
ـــ ولكن .. ماذا يوجد فوق ..؟
_ كل شيئ
_ هل يوجد حدائق وملاعب وبوظة ؟
ــ نعم
ــ طيب هل يوجد مدرسة ؟
ــ بالتأكيد ! ..
كان القبطان يكذب، لكنه لا يريد أن يتأخر عن مهمته اللاحقة في خطف ثلاثين روحاً إضافية قبل شروق الشمس، والصدفة الملعونة جعلت هذا الولد يصحو ويراه .. أردف بارتباك : بالتأكيد هناك مدرسة ..س . ستفهم كل اللغات..و.. ستقرأ بثوانٍ كل العلوم، هناك لن تشعر بالجوع ولا بالمرض، ولن ينهش أمعائك جوع الحرب، ولن يصيبك الرصاص، ستكون آمناً، سعيداً، لن تشعر بالنعاس ولن تنام أبداً .
ــ ولكن …!؟
ــ ماذا تريد أكثر من ذلك ؟!
ــ أريد أن أنام ..
اهتّز القبطان بنفاذ صبر :
ــ ولكن لماذا ؟
ــ لأنني أريد أن أحلم .
لفّ القبطان عبائته السوداء حول جسده بغضبٍ مكتوم هاجساً قبل أن يرحل بخيبةٍ مرّة:
ــ اللعنة .. هذا الولد أيضاً يريد أن يحلم ..!
وخبّ مع الهواء البارد خارجاً من ثلوم الباب المتشقق، بينما كانت الأحلام تُزاحم الحمى .. وتصل إلى حدقتيه كطيورٍ محروقة الأجنحة .. لاهثة وسعيدة .