ربيع مرشد يكتب: الهويّة

لا شك بأن مصطلح الهويّة يُعتبر من المصطلحات الحسّاسة، وأيضاَ أكثرها اتّساعاً وشمولية، لكن في الوقت نفسه يعد أشدّها ضيقاً وتكبيلاً واختناقاً!. وهذا الأمر يتجلّى بحسب الشخص نفسه وفضاء أفقه، أو ضيق هذا الأفق. وفي كثيرٍ من الأحيان يأتي على مستوى تربيته ومنهله، والوسط الأسري أو الاجتماعي الذي نشأ فيه؛ والتلقينات التي تجرّعها منذ طفولته.

والهويّة ليست هي البطاقة الشخصيّة التي تُثبت بأنك تنتمي لمكانٍ أو بقعة ما، أو أرض ودولة. وإنما الأمر ينطلق بدايةً من الشعور بالحنين، الحنين لمكانٍ تركت فيه الأحبّة، هي الذاكرة الجَمعيّة لجغرافيا مُحدَّدة. أنت لا تشتاق لأصيص الحبق، الذاكرة تأخذك لليد العزيزة التي قامت بزراعة وسقاية هذا الأصيص، وحين تقوم لاحقاً باستنشاق الرائحة الذكيّة، سوف تستمتع لأنك تتذكر تلك اليد. ولا تهمّك كثيراً الحجارة السوداء للمضافة العتيقة، لكنك تستذكر جلسات حكايات من كانوا يوماً حول موقد الحطب؛ سوف تبتسم، ومن ثم قد تدمع لذكرى أناس أعزّاء.

لكن الهويّة الداخلية للمرء ما كما اسمها، شخصيّة جداً، ومُحدَّدة جداً، وعاكسة للتفكير الفردي تماماً. ومن هنا سوف نحاول الإضاءة أكثر على هذا الأمر، ومن الأضيق حتى الأكثر اتّساعاً:
1- الهويّة الأُسريّة: في النشيد الخامس من الأوديسة يقول عوليس: (لكنني أتلهّف لهفة أعيشها كل يوم كي أصل إلى بيتي، وأتمتّع بنور العودة). كثيراً ما نصادف أشخاصاً فضاءهم الأكبر هو الأسرة، لا يستطيعون بناء علاقات خارجها، وإن حدثَ ونشأت علاقة ما من خارج هذا اللفيف الضيّق، سوف يصبح جميع من في الأسرة أصدقاء هذا الدخيل الجديد. وهؤلاء أشبههم بالرقم: 4، وكما كان يقول نيكوس كزنتزاكس في كتاب: (تقرير إلى غريكو)، وبما معناه: أن هؤلاء –أي الأعداد الزوجية- يشكّلون المجتمع، ويبنون الأُسَر المُتماسكة الجميلة؛ لكنهم ليسوا الثلاثة القلِقة التي تُشكّل الحياة، ولا الواحد المُتفرِّد النادر الوجود.

2- الهويّة العائليّة (العصابيّة): وهذا الأمر يتجسّد تماماً عند المُتزمّتين لعوائلهم، وأشدّه نجدهم في المُجتمعات المُنغلِقة على نفسها، ونراها جليّاً في الشرق المُعتكف على ذاته. هؤلاء يجدون في العائلة أو العشيرة ملجأً وخلاصاً ما.

3- الهويّة الطائفيّة: وهي من أشدّ الهويّات إشكاليّة وأكثرها خطورة على المجتمعات مُختلفة المرجعيّات: (الموزاييك الملوَّن). وتتجلى بشكلٍ واضح في الخوف من الآخَر ورفضه وإقصاءه، وليس لهذا الرفض والإقصاء أية أسباب مُقنعة إلا تلك العُصابيّة التي تتكون في دواخل أبناء الطائفة. فيكوّنون موقفاً عدائياً اتّجاه الآخر، وقد يصل إلى مرحلة البغض وعدم التواني عن الكراهية والمقت، وربما القتل؛ ويغدو هذا الفكر خطيراً للغاية بتحوله ما بين قوسين إلى: (هويّة). فيفرز مجموعات تُشرّع الإرهاب وتبرره لأجل هدفهم الأسمى –حسب مُعتقدهم- وهو: (الدين). هؤلاء هم الأكثر تعصباً والأكثر استقتالاً لأجل طائفتهم الضيّقة كما رؤيتهم للحياة، وهم أنفسهم ذاك الهشيم الخطير الذي سوف يحترق ويحرق من حوله حين يمسّهم أقل عود ثقاب يقترب منهم ومن معتقداتهم التي أسستها المرجعيات، فتغدو قانوناً وصندوقاً حديدياً.

4- الهويّة الوطنية: تلك التي أفرزت أهم المدافعين عن أوطانهم التي حدث واستبيحت يوماً ما، وهذه الهوية لا تقف فقط عند الأبطال الثائرين على الغُزاة، وإنما تندرج أيضاً على المُفكرين الذين جعلوا من القلم منارتهم وشعلتهم التي تضيء دروب الأجيال. وفي كثيرٍ من الأحيان يكون مناضلو الفكر على قدرِ الأهمية نفسها مع مناضلي السلاح، وأيضاً سوف تطالهم يد الغازي كما تطال المجاهد؛ فكليهما يقارعان الظلم ولا يرضيان باستباحة أوطانهم. وكلاهما –أي المُفكِّر والثائر- يشكلان خطراً على الغازي بسبب تجلّي هويتهم الوطنية ووضوحها؛ والموت أمامها.

5- الهويّة القوميّة: وهي تشبه بطريقة ما الهوية الوطنية، لكنها أوسع مدى أفقياً، وتُنادي في تجميع البلدان ذات الأساسيات المُشتركة، وأهمها اللغة، وفي وطن واحد. وقد تتجرأ على المطالبة بلمِّ شملِ أجزاء أخرى كانت منسية من ذاك الوطن الكبير؛ ولن نقول سرّاً أن ألدَّ أعداء الهويتين: القومية والوطنية، هي الهوية الدينية.

6- الهوية الإنسانية: لا شك بأنها أرفع حالات التجلّي، لأنها أكثر الهويّات التي يرتفع فيها المرء ويرتقي نحو المحبّة والفضاء الرحب، ومنها تنطلق كل المحبّات: انطلاقاً من الإنسان المتجه نحو الطبيعة البشرية الخالدة، إلى الكائنات بكليّتها، ووصولاً إلى الخالق. لن تكون محبّتك خالصة ونقيّة إلا عندما تتماهى مع الإنسانية، وبالتالي مع الخير والجمال، والإحساس المُرهف بكل ما هو نقيٌّ من الداخل. ربما يكون هذا الكلام أفلاطونياً نوعاً ما، أو طفولياً بطريقة أو بأخرى؛ لكن دعونا نسأل ذواتنا هذا السؤال: “أليست الطفولة هي أرقى حالات الشعور بالصدق، بالحب، وبالنفوس البيضاء؟”. “أليس الجميع يُنظِّر بالخير والمحبّة، حتى الخبثاء؟”. وكأن هرَم البشرية المقلوب يبدأ من الطفل ويهبط نحو اللوثة والكراهية، ثم يعود ويصفو إلى الكهولة. ألم يفكر أحدنا بأن هذا الكهل، وأكثرية الكهَلَة وكأنهم أطفال؟.

وهنا لا بد من سؤال: هل الهويّة عبوديّة؟.

ربما هي العبوديّة المَحضَة في حالاتها الثالثة الأولى: الأسريّة والعائلية والطائفية، لأنك هنا عبداً بكل معنى الكلمة، تتبع ما يتبعه القطيع البشري، وفي كثير من الأحيان تموت لأجل شيء اخترعه سَلَفك حتى تبقى تحت نير البرمجة الضحلة لفكرنا الركيك قصير النظر. وتأتي الهويّات الوطنية والقوميّة لترفعنا درجات، فتتحوَّل مناضلاً لأجل أرضك المُقدّسة. لكن ثِق تماماً بأنك لن تتخلص من عبوديتكَ إلا حين ترتقي نحو قاعدة الهرم الأولى، نعم هنا ليس خطأ أو لغطاً لغوياً، إن قاعدة هرمك هي الرضيع المولود حديثاً، والعاري تماماً من طائفته وأسرته وحتى وطنه؛ هو الانسان فقط، هو الإنسانية، والخير بأسمى صوره وتجليّاته، فتنزع عن ذاتك عبوديّتك مهما كانت مرجعيتها، وتعود لأرضك البِكر، للإنسان الصافي الذي هو أنتَ ولا شيء آخر.

شارك

Share on facebook