موفق مسعود يكتب: رسالة في الظهيرة

سأكتب اليوم رسالة مكثفةً وأقرأها لمن حولي، قبل أن أرسلها للنشر في إحدى الصحف، ولكن ثمة محرك ديزل تحت نافذتي يئّز بلا هوادة .. إنه لشاحنةِ نقلٍ كبيرة، مع أن الوقود ليس رخيصاً فإن المحرك يدور ويدور، بينما الشاحنة متوقفة، ربما صاحبها موظف في الدولة إذن، ويقوم بإحماء المحرك ، بينما أجلس خلف طاولتي أحاول أن أكتب سِيراً لشخصياتٍ أتخيلها، طيوف الأموات الكثر اللذين قضوا على هذه الأرض منذ آلاف السنين، أستعير صوراً .. ذكريات .. رائحةُ أنفاس شهقت يوماً تريد البوح العجول .. أصوات لم أسمعها في حياتي، لها فرادة نفيسة ورنين مختلف الموجات… هكذا .. تصطاد الكلمات السِير، من الفراغ .. الفراغ نفسه حيث يمكن لصوت هذا المحرك الشرس والعنيد والمتواصل أن يدّمر أركان الخيال ويعود بي نحو مبررات دورانه تحت نافذتي ..؟
ربما لأن صاحبه موظف لدى الدولة مع شاحنته .. وعند الدولة الوقود مجاني ..!
خلف كل تلك الكلمات تتدفق السِيَر، كمياه ترقد في طبقات الأرض السحيقة .
نقاط . مسارب. جداول وأنهار وبحيرات متلاطمة وشلالات .. وتلك السِير البعيدة عن السطح حيثُ تبدو الكلمات فوق رذاذها المتطاير كأنها لعبةٌ بيد الضوء.
أسير في عتماتها فأرى رجلاً عاش هنا بين طيات الجبال وكتل الصخور الصماء قبل مئات السنين، وذات يوم كتب رسالة على جلد ماعز جبلي ليقرأها لمن حوله، وبعد أن فرغ منها ، لم يجد من يلقي له بالاً، فقرأها لنفسة ثم مات !
تنوقلت شفاهاً أخبار ما كتب، لأن التاريخ المكتوب كان حكراً على كتبة مرخصين، و لا شأن لهم بثرثرات الشعراء الملعونين في الأرض وفي السماء ، كان ذلك الرجل مغنياً على الأرجح ، لكنه كتب في رسالته تلك كما تنوقل شفاهاً :
/ إننا ننسى على الدوام ما مرّ بنا .. نحن قوم نسّاء، لأن ذاكرتنا محشوة حتى النخاع بالعقائد الميتة فلا تتسع للزمن، ولأننا نحب الحياة فقط دون الحصول عليها، فإننا نظن على الدوام أننا نقبض على سرّ عبورها الآخاذ، ولأننا ننسى، ها أنا أتذكر عنوةً نحو زمنين متناظرين، أحدهما في الماضي، والآخر في المستقبل وأقول : سيدخلون إلى المدينة من الشرق، ثم من جهاتها الأربع، حاملين فراغ أرواحهم وصحراءهم، كي يلوثوا بساتينها بالرمال، ويزرعون في قلوب سكانها الخوف من الإنتقام، كي يعبدوا قاتلاً ثم يرموه في قيعان أرواحهم، ويحاولون العودة إلى النسيان، متلمسين منافذ العتمة كخفافيش أنهكها الضوء/
وصلتني هذه الرسالة في عزّ الظهيرة الخريفية هذه .. وها أنا أفكر في كاتب الرسالة تلك، ذلك الرجل السحيق، الرجل الذي لا وجود له في الحقيقة، إنني أتخيله فقط، لكنني سمعت صوته الغريب يرنّ في مخيلتي وأنا أقرأ ما كتب، وعليّ أن أتيقن مجدداً من أن خيالي ليس مريضاً ، وأن ما أتلقاه من الرسائل هي محض وهم .. !
لكنني أراهم وقد نهضوا مجدداً من المعابر التي دخلوا منها إلى العتمة .. من هناك .. أو من هنا، حيث المحرك الذي يدور ويدور في هذه الظهيرة، لأن الوقود لدى الدولة متوفرٌ، ولأن أطفالٌ سيئنون من الجوع والبرد مع تقدّم المساء ولأن آخرون في البناء المقابل سيقتلون بقذيفة طائشة بعد قليل.

شارك

Share on facebook