شروق اللهياني تكتب: نوّار

القصة الفائزة بالمركز الثاني مناصفة في مسابقة أبجد.



أنا فتاةٌ منْ طينٍ، طينُ قاذوراتِ العالمِ، ريفيّةٌ مُحلقة دونَ أجنحة.

وَيعمُّ الصّمتُ!

في غرفةٍ ضحلةٍ بينَ سردابينِ اثنينِ، يندفعُ منْ ثقوبِها عناكبٌ سوداء عايشتها بِودّ وَبمحاذاةِ نافذتها شقّوقٌ أكل منها الدّهرُ وشرب، وكُنتُ أنا القرويةُ العشرينيّةُ مركونةً في الزاويةِ على كرسيٍّ هزازٍ وَجسدٍ ثابتٍ كَجذعٍ مُهترئ بِشفتينِ مُتحركتينِ حسبَ مخارجِ الحروف.

يُحادثني رجلٌ مُربعُ الوجهِ، عاقدُ الحاجبينِ وَأشيبُ بِصوتٍ خافتٍ لَكأنهُ يهربُ بي من ضوضائي، مُحدقًا في عينيّ:
تُرى ما الّذي يُطفئُ بريقَ الحياةِ في عينينِ كَعينيكِ؟

العالمُ، إنّهُ العالمُ …

وُلدتُ في بيتٍ ريفيّ صغيرٍ باردٍ، جُدرانهُ صُلبةٌ، نفحهُ لِلمارةِ مُمسّكٌ وَلو كانَ لِلنّوافذٍ وَالأبوابِ مرايا لَعكستْ، وَلِحجارتهِ لسانٌ لَتحدثَ عن بؤسِ قاطنيهِ، نحنُ الّذينَ يُضربُ بِنا المثلُ أشبهُ بِطاووسٍ هائجٍ يُبهج الأعينَ وَيتصدرُ اللوائحَ بِرشاقتهِ لكنّهُ مُضطربٌ، مُتصدعُ القلبِ.

وَتبدأُ حكايتي في عبثيةِ الرّيفِ، الرّيفُ الّذي يبصقُ بناتِهِ إلى خارجِ الحياةِ وَيعطبُ أرجلهنّ فيمضي الطّريقُ وهنّ واقفاتٍ في ذاتِ البؤرةِ وحيداتٍ، مِنهنّ يقفزنَ حولَ أنفسهنّ وَيراوغنّ وَتنعطفُ أخرياتٍ عائداتٍ لِلعقلِ القبليّ بِروحٍ تتهيّأ لِلمغادرةِ نحوَ اللا حياة.

وَأياهُنّ أنتِ؟
أنا مضيتُ معَ السّبيلِ!
وَكيف…؟!
بِنصفٍ مُتمردٍ وَالآخرِ مُرتجفٍ بِحدّة!

أتودّينَ القولَ أنّكِ مضيتِ بِمتناقضينِ اثنين….. هذا جلدٌ لِلذّات؟

صحيح، لمْ أتوقفْ يومًا عنْ تأديبِ نفسي، وَترتيلِ البيانِ الأبويّ العائليّ الّذي ينصّ بِكلّ أبعادهِ أنّ الحياةَ مُحرمات، فَكانَ الذّنبُ الأولُ مِثلُ الأخيرِ رغمَ اختلافهما في الحدّة إلّا أنّ عقلَهمْ الضّيقَ يرى اللونَ الواحدَ بِدرجةٍ واحدة.

لمْ تمنعني التّقاليدُ وَلا رهبةُ الأبّ وَلا جواسيسُ القريةِ أو إجازتي الجّامعيّة عنْ الغرقِ في الوحلِ …وَها أنا عالقةٌ في منتصفِ الأشياءِ وَغامضة، وَلمْ أتشبعْ وَلو لِمرةِ حنانًا أسريًّا لِذا كنتُ كُلّما رأيتُ أبَّ إحدى رفيقاتي يقبلها أهربُ إليهِ سرًا باحثةً عنْ ذلكَ الشّعورِ فيهِ وَكانتْ هذهِ الخطيئةُ الّتي أسهبتُ فيها وَكأنّها قصيدةٌ أو إيقاع، كنتُ كلّما لامسني أبُّ إحداهنّ أكرهُ أبي وَأحبّ نارَ القبلاتِ وأتلذذ في دخاني الصّاعدِ منْ كلّ أنحائي، فَكنتُ في وضحِ النّهارِ الفتاةَ الجّامعيّةَ الطّاغيةِ خفيّةً على مراسيمِ العائلةِ، وَالباكيةَ نفسَها ليلًا.

أما خطيئتي الأعظم لمْ أرتكبْها، بلْ ارتكبتني!

أنا منْ عائلةٍ خلوقةٍ ظاهرًا، وَهذا يعني أنْ أبلعَ لِساني حِفاظًا على ماهيتها ضمنَ مُجتمعِ نِفاقٍ يُعششُ فيهِ “البريستيج” أو “البروتوكول المصطنع!

وَغرفةُ نومي لمْ تكن مُلكيةًّ خاصة بلْ يقاسمني إياها أخٌ يَصغرني بِأربعِ سنواتٍ وَشهرين وَثلاثةِ أيامٍ وساعتين، وَكيفَ أتذكرُ الفارقَ الزّمنيّ!

هذا لأنّ الأشياءَ العميقةَ الّتي تُسقطكَ في طورِ الانكماشِ وَالعلّةِ النّفسيةِ لا تُنسى.

أخي هذا تعمدَ أنْ يَجتاحني كلّ يومٍ، يحتلّني…يرفعُ يديّ بِمحاذاةِ وسادتي، يغوصُ فمهُ على وجهي وَيصعبُ بعدها فصلُهُ عني!

يغتصبُني، وَيتحدثُ في اليومِ الّذي يليهِ عن اجتياحِ اليهودِ لِمُلكيةِ فلسطين، والقضايا الحقّوقيّةِ العالقةِ ـ كانَ يدرسُ الحقّوق ـ خالعًا سفالتَهُ على آخرِ رمقٍ بي بينَ ثيابي المنثورة!

حتّى جاءَ يومٌ اضطررتُ فيهِ أنْ أنتقلَ بِشكلٍ كلّي وَنهائي إلى المدينةِ لِألتحقَ بِوظيفةٍ حكوميّةٍ أعلم تمامَ العلمِ أنّ مردودها الماليّ ضئيلٌ لكنّها الخلاص مِن ليالي الجّن المُتلبسِ بِالأُنسِ، مِنْ تلفيقاتِ تُهمِ أهلِ القريّة وَخوفيَ منْ حميميّةِ العلاقاتِ مع الآباء.

شرّعتُ يديّ لِلحياةِ، وَظننتُ أنّي انطلقت….

معَ مرورِ الأيامِ وَتعاقبِها إضافةً لِانخراطي في العملِ وَالزّمالةِ المُفعمةِ بِالحرّيّةِ الفكريّةِ وَالاستقلاليّةِ بِمختلفِ مقاييسها وَتَفاوِتها تِبعًا للاختلافِ العقليّ بيننا، كنتُ أنا فقط الفتاةَ المتوجسةَّ الفارقةَ عنْ المدنيّةِ وَالتّحضرِ، المنطويّةَ بِكلّ الغابرِ من حياتي على نفسي وَالمكتظةَ بِكليشيهِ الأسرةِ التّقليديّة الأبويّةِ وَنتائجِ الكبتِ المتعددة…. وَالفارّةَ منْ وجوهِ كلّ رجالِ الأرضِ خوفًا منْ أهوالِ عُذريتي المكنونةِ في أغوارِ نفسي إلى أنْ تعثرتُ بِرجلٍ كَالنّسمةِ، رقيقٌ وَجميلُ الهيئةِ بِبشرةٍ سمراءَ وشعرٍ لولبيّ، ممشوقُ القامةِ، عريضُ المنكبينِ، رأيتُ في مساحةِ صدرهِ اتحادَ الذّاتِ في سبيلي الشّاقِ….
لحظة!
ماذا؟
أباكِ، مَنْ هوَ؟

هه… هوَ ذلكَ الرّجلِ أشعثُ الشّعرِ وَالقلبِ، ممنْ يقيمونَ عزاءً لِوليدة، وَوليمةَ سبعَ ليالِ لِوليدِ!المُتحدثُ باسمِ القريةِ الشّهمِ، المضيافِ الّذي تنزلُ عندهُ كلّ الأقدامِ الغريبةِ وَالمألوفةِ، وَلكنْ لا قدمَ في ظلهِ لِابنتهِ كي تقفزَ فوق اسوار العائليّةِ والنّزاعاتِ بينَ آل فلانٍ وَآلِ فلان، وعرسانِ الجّارةِ لَكأنّها تُديرُ مكتبًا تِجاريًّا أو مرعى أغنام!

أمامَهُ يجبُ عليّ ان أخفضَ رأسي وَصوتي معًا وَأتبعهما بِحاضر، كما من المفروضِ أنْ ألتزمَ بِملبسٍ فضفاضٍ.كنتُ كلّما استحممتُ تسربَ حلمٌ مع الماءِ إلى المجارير، مجاريرُ الأنفاقِ النّمطيّةِ وَتعميماتِ البلدةِ حولَ التّقدم العلميّ والتّكنولوجي وَانتشارِ النّسوياتِ وّالتّجمعاتِ الشبابيّةِ وَإغلاقِ بواباتِ التّرفعِ أمامَ القاصراتِ وَالبالغاتِ وَالمتعلماتِ وَالجاهلاتِ…. كلّ نساءِ البلدةِ على حدٍّ سواء، كي لا تَنقصَ رجولةُ المعتوهينَ فيها، وَأبي منهم.

تمردتُ، نعم.. على كلّ هذا ولكنْ في اتجاهٍ عكسيّ!

ألمْ ينقذكِ الرّجلُ النّسمة؟!
كنتُ أرى فيهِ الرّجولةَ الحقّة وّالمثقفَ المُنفتحَ على عوالمِ وَكواليسِ الحياةِ الشّرقيّةِ وَتبعاتها، النّورَ المُنبثقُ في آخرِ هذا الممرِ الحالك.
دائمًا ما كنتُ أسمعهُ يجهرُ بِصوتهِ غاضبًا من رجلٍ فرضَ تعاليمهُ الذكوريّة على امرأة، أو أبّ رمى بِابنتهِ القاصرِ بينَ مخالبِ رجلٍ أربعينيّ.مرةً في حديثٍ عنْ المُنزلقاتِ بِوعودِ الحبّ الوهميّة وَالعاهراتِ حسبَ تعبيرِهم، اللواتي يُنجبنَ الأبناءَ في قبوِ هشِ تأكلهُ الرّطوبةُ بِنهمٍ أو في بيوتِ الدّعارةِ لِلنّساءِ اللواتي أوصدتْ مخارجَ النّجاةِ في وجوههم، قال:

“إنّ مُحترفاتِ الدّعارةِ لا يُنجبنَ اللقطاء لأنهنّ لا يثقنَ بِأحدٍ، اللقطاءُ أبناءُ اللحظة”.

منْ يومِها وَأنا أحبّ اسمَ ” فيودور دوستويفسكي “، ولمْ أقرأ لهُ قطْ، لمْ يكنْ بِوسعِ فتاةٍ مثلي أنْ تشتري كُتبًا باهضةً منَ الأدبِ الرّوسيّ، ربما لو استطعتْ لَفهمتْ غايةَ هذا المراوغِ مُسبقًا وماكنتُ أمّا تَرمي ابنَ أو ابنةَ أربعةِ أسابيعٍ في الصّرفِ الصّحيّ.أدركتُ بعدَ فترةِ إجهاضي أنّ المُتحضرَ والرّيفيّ وَالبدويّ… جميعُهم لهمْ ذاتَ المرجعيّةِ، وَأنّ غشاءَ البكارةِ مقياسُ الشّرفِ الوحيدِ دونَ قانونٍ رادعٍ لِلمغتصبينَ وَالآباء.

وَبِالطّبعِ ألغيتْ المادةَ “548” الّتي تحمي الجّاني بِدافع غسلِ العارِ وأيّ عارٍ يغسلُ بالدّماء في تَمردغِ الإنسانيةِ ضمنِ عهر الموروثاتِ، قلتُ هذا لِأبي حينما أخبرتهُ عنْ أحدِ المطالبينَ بِإلغائها مُفتي سوريا ـ الشّيخ أحمد بدر الدّين ـ لأنّ الشّرفَ قيمٌ وَأخلاقٌ، وليسَ دعواتٍ لِلقتلِ حسبَ قولهِ.

في لَحظتهِا دسّ أخي سمّهُ في الحديثِ وَأخبرني عنْ مادةٍ أخرى ـ المادة 192 ـ تدعي وجودَ دوافعٍ شريفةٍ في الجّرائم، هذا عدا عنْ المادةِ 242 الّتي تُخفف العقوباتِ لِمنْ كانَ غاضبًا وَأشياءَ أخرى.

لِذا التزمتْ الصّمتْ، لنْ أغلبَ مُحتالًا سلاحُهُ القانون!

لنْ أغلبَ أبًّا كانَ يفتعلُ عراكًا إذ ما رفضتهُ أمّي مرّة، أمّي الّريفيّة التّقليديّة الّتي كانتْ تَسبِقُ الفجرَ أو يسبقُها ثمّ تتحولُ لِكومةٍ من الجّلدِ المزرقِ المبتلِ بِفيضٍ من الدّموع.

يلتقطُها ليلًا فريسةَ غرائزهِ البائسةِ لِنولدَ كما أبناءُ العاهراتِ، وَبِحياةٍ لا تختلفُ عن حياةِ اللقطاء، عائمًا فوقَ جسدِها، باصقًا على خديّها الحمراوينَ كلّما شعرتْ بِالغثيانِ منْ تصببِ عَرقهِ على ترقوتِها وَوجهها وَتغلغلِ رائحةِ الرّوثِ في أنفِها، وَبعدَ أنْ ينتهي منْ ساديتهِ المُقرفةِ، يُمسِكُ شعرَها وَيسحبُها إلى خارجِ غرفةِ نومهِ، مثلَ دابّة!

أبٌّ تحميهِ الثغراتُ القانونيّة، وَالعشّائريّة، وَتعاليمُ الدّين، وّالبلدةُ وَرجالُ الأمن وَجدّتي وَحتّى أمي!
أنتَ لا تعلمُ ما بِمقدورِ رجلٍ خسيسٍ أنْ يفعلَ في غاب!
لِما لِمْ تتزوجيه؟
لأنّه شرقيّ بحتٌ!

كنتُ لِأتزوجهُ وَأرثَ صمتَ أمّي، وَكانَ لِيكونَ ثوريًّا حقيقيًّا، لكنّهُ رفض!

رفضَ رفضًا قاطعًا مُدعيَّا أنّ أباهُ لا يُريدُ نساءً غيرَ مُتحضراتٍ، وَأرفقَها بِحُجةِ خوفِهِ منْ أنْ يموتَ بِنوبةِ سُكرٍ أو نوبةٍ قلبيّةٍ وَيقضي عمرَهُ نادمًا، ثمّ علمتُ مُصادفةً منْ زميلةٍ في العملِ أنّهُ يصفُني بالعاهرة وَبِمصطلحٍ مُتداولٍ آخر عاميّ ومستفز “تكسي أجرة”!!

وُشعرتُ بالاشمئزاز منْ طِهرِ قلبي حينما وصلَني خبرَ زفافهِ منْ ابنةِ عمِّهِ، مُتدينة لا تؤمنُ بِالعلمِ جلّ ما تعرفهُ الأعمالَ المنزليّة وَسقف حدودِها البوابةَ الرئيسيّةَ لِمنزلِهمْ!

حدثتُهُ عنْ أبسطِ تفصيلٍ وَأعقدِهِ، وفي كلّ مرةٍ يشتمُ الأسرَ المُتعصبة!

حقيقةً، نحنُ دائمًا نمقتُ ذواتَنا حينما تلوحُ لنا الفرصةَ في زحمةِ حديثِ الآخرينَ عنْ مآسيهمْ!

مُنقادٌ جدًا وَمُنصاعٌ لِرغباتِ العائلةِ وَالموروثِ الاجتماعيّ في عائلةٍ ارستقراطيّةٍ حتّى قواعدُ النّومِ فيها صارمة، وَلا تختلفُ في عمقِها عنْ المُتطرفينَ بتاتًا، هيَ أشبهُ بِقاعٍ مُزدحمٍ بِالرّذالةِ، لِذا كُنتُ أنا الدّخيلةَ المُناقضةَ لِشروطِ زيجاتِها.

لمْ تحزني الخيباتِ السّالفةِ بِقدرِ خيبةِ قلبي حينما أحببتْ، وَلكنْ حينما اطلعتْ عنْ كثبٍ على صفاتِ زوجتهِ الخانعةِ أدركتْ أنني حرّةٌ أضعافَ حرّيتها، على الأقلِ تجرأتُ وّلو سرًّا وَتذوقتْ طعمَ الحبّ ورغمَ انتمائي لِلطّبقةِ الكادحةِ المُستضعفةِ إلا أنّي حاصلةٌ على إجازةِ الطّبِ البيطري.

مجددًا تيقنتُ من دهشةِ المظاهرِ وَدناءةِ الحقيقة!

سارَتْ الأمورُ على نحوٍ شاسعٍ منَ اللابأس، وَالنومِ المتقطعِ وَقلةِ الحيلة…

هلْ تعرف أنّ تسعينَ بِالمئةِ منَ النّاسِ الّذينَ يعيشونَ حياتينِ يفعلونَ ذلكَ لِأنّ تقاليدَنا لا تسمحُ إلّا بِحياةٍ واحدة!

قرأتُ هذا مرةً لِنجيبِ محفوظ في مكتبةِ المدرسةِ الإعداديّة.

وَرغمَ معرفتنا وَثقافتِنا الواسعة إلا أننا نفتقرُ جميعُنا للِثقافةِ الاجتماعيّةِ وَالحياتيّة الّتي تُعاشُ دونَ أنْ تُقرأ أو تُدرّس.شعرتُ بعدَها وكـأنَ حدودَ الغرفةِ انطبقتْ على بعضها مثلَ عُلبةٍ معدنيةٍ داستها الأرجلُ بِسذاجةٍ، وَرأيتُ في الطّبيبِ النّفسيّ مَحقّقا ينبشُ خطيئتي لِيقرّ عقابًا مملوءً بِجرعاتِ الدّواء لِذا فررتُ بِلا أجنحةٍ وَبِقدمينِ سافرين!

لمْ أحتملْ جحوظَ عينيهِ وَاتساعهما عندَ كلّ تخطٍ لِحدودِ الحياةِ المُقررةِ منَ أجدادِ الأجدادِ وَالمستمرةِ في جعبةِ خنوعِ الأحفاد، وَعقلي لمْ يتوقفْ عن استحضارِ وجههِ وَالبصقِ عليه حتّى شعرتُ أنّي نسخةٌ مُصغرةٌ عنْ أبي يكررُها البؤسُ بِوحشيّة.

نحنُ الاشقياءُ رضعنا التّبعيةِ منْ صدرِ أمهاتِنا وَبَصقناها منْ فمنا في كلّ تمردٍ أو تورط!

زحفتُ في شوارعِ المدينةِ حشرةً مقصوصةَ الأرجلِ وَمخلوعةَ الأجنحة، وجهي شاحبٌ مكفهرٌ وعينايَ تائهتانِ في وجوهِ المارةِ منَ الشّارعِ وَفي رأسي، قلبي ساكنٌ ونَفَسي ضائعٌ في رياحِ آذار…شعرتُ وَكانّ كلّ الفصولِ شتاءاتٌ مُرّة…وَأُغمى عليّ.

أشحتُ النّظرَ حولي، وجدتُني على كنبةٍ بُنيّةٍ داكنةٍ تسلقَ حوافَها نبتةٌ خضراءَ بِأوراقٍ لامعةٍ في صالونٍ دائريّ مُطلٍ على شارعٍ مرصوفٍ أحجارًا عتيقةً بِجدرانٍ زجاجيّةٍ ينسدلُ على تقوسِها ستائرٌ سماويّة… بدَتْ الكنبةُ الوحيدةُ عرشًا ملكيًّا في فسحةٍ شبه سماويّة.

لِوهلةٍ ظننتُ أنّي انتقلتُ إلى عالمٍ آخر وَسرعانَ ما سمعتُ أقدامًا تطرقُ الغرانيتَ البراقَ بِقسوةٍ وَيسقطُ وجهًا مألوفًا أمامي هوَ وجهُ أخي.تصافحَ كفاهِ وراءَ عُنقي وتسللَ الإبهامان فوقَ حُنجرتي، َحشرجتُ بِخنقةِ السّكاتِ وَفقرِ حنجرتي منَ الهواء ثمّ غابَ صوتي وَتوغلتْ رائحةُ جسدهِ الّنتنةِ في صدري.

ثوانٍ أو ربما دقائقٌ توقفَ الوقتُ عندَ حُنجرتي فَلمْ أدركُ إلّا رجلًا مربوعًا مِقدامًا ينزعُ مَخالبَ أخي عنْ عنقي وَيدورُ بهِ نحوَ البابِ ساحبًا إياهُ إلى الخارجِ…. ثمّ يعودُ إلي:
بحثتُ عنهُ بِجدٍّ لمْ أعلمْ أنّهُ همجيٌّ بِهذه الحدّة، ظننتُ أيضًا أنّك عابرةٌ عاديّة!

حينما رأيتُ وجهكِ القمحيّ شاحبًا، وجسدكِ ملتوٍ على الإسفلتِ مِثلَ عنقودٍ أجعدٍ على فرعِ دالية لمْ أقوى على استنكارِ هذا الحدثِ مثلَ العامةِ العابرينَ بماركاتِ أقدامِهم بمحاذاتكِ تمامًا بإنسانيّةٍ باليّة.ربما هذا نزولٌ في الضّغط أو انخفاضُ سكرٍ، ربما جفافٌ أو فقرُ دم أو نوبةُ هلع، وَتلكَ الأخيرة إجاباتكِ توضحها.

أجبتُهُ باقتضابٍ: لا بأس!

هرعتُ بِسرعةٍ وارتجافٍ وَعدتُ إلى الشّارع أشتمُ نفسي لانهزامي مُجددًا أمام رجلٍ كَغيرِه، يمتصّ كلّ غضبي ثمّ يتركَ نُدبةً بِنرجسيتهِ.

رجلٌ قُطنيُّ البشرةِ بشعرٍ خفيفٍ على ناصيةِ رأسهِ، يبدو عليهِ غيرَ منظمٍ منْ بطنِهِ البارزِ خارجَ حدودِ خاصرتيهِ ..هذا ما عرفتُهُ عنهُ فقط، وَرغمَ إنقاذهِ لي ما زلتُ أرى أنّ المظاهرَ خُدعةً لِلمساكينِ!

جيدٌ بعدها أنّي وصلتُ إلى بيتي دونَ أنْ أنسى طريقهُ المتداخلَ بينَ الحاراتِ الشّعبيّةِ وَدرجهِ المائلِ على جانبِ بِناءٍ مُتصدعٍ.

بيتي غرفةٌ واحدةٌ تحتوي مأوىً لِلنّومِ وَمطبخ مُناصفةً، أمام شُباكها حمامٌ لِقضاء حاجتي وَالاستحمام بشرشفٍ سميكٍ على بابهِ يمنعُ الشّمسَ وَيحتضنُ المطرَ وَالثّلجَ لكنّ كلفتُه الشّهريّة تتناسبُ جدًا معَ راتبي.وَبِالرغمِ منْ هديرِ صوتِ مالكتهِ ـ كَبوسطة ـ إلّا أنّهُ أكثرُ عطفًا منْ صوتِ أبي.استلقيتُ على فُراشي أُطالعُ جُغرافيا السّقفِ مُسافرةً فيها بينَ حيواتي المختلفاتِ، ثمّ غفوتُ….

حينما حصلتُ على الوظيفةِ لَزمني أنْ أجدَ مأوىً يُخففُ عني أعباءِ التّنقلاتِ اليوميّة بينَ الرّيفِ والمدينةِ عابرةً لِخمسةِ أريافٍ أُخرى، وَكانَ على والدي أنْ يُرسلَ معي أخي ليأخذَ معاييرَ بوصلتهِ الخاصةِ باتجاهاتي وَأنا غائبةٌ عنْ عينيهِ ليسَ حرصًا عليّ وَإنْما كي لا تُعيبهُ شيوخُ البلدةِ المُتدينينَ وَيُقصى عنْ أعرافهِ وَتقاليدهِ الاجتماعيّةِ، لمْ يكنْ هذا الّذي أسكنهُ الآن وَلكن بعدَ مُضي ما يُقاربُ السّتةَ أشهر خرجتُ منْ خارطةٍ مُقررةٍ نحوَ حياةٍ أكثرَ ذاتيّة، على الأقل هذا ما ظنتُهُ قبلَ أنْ أستيقظ على صوتِ أمّ يحيى صاحبةُ المنزل، المرأةُ القاسيةُ الطّماعةُ كما كنتُ أراها، تطرقُ بابَ غرفتي وَ كأنّها تودّ لو تقتلعهُ كي تصلَ إليّ…

وَأنا في لحظتها كتلةٌ لحميّةٌ يصبُّ منها العرقُ وَترتقصُ وَثابتةٌ، أجهلُ كُلّ حربِ الخارجِ.لا أعلمُ كيفَ نشلتني يدايَ وَسحبتني قدمايَ نحو البابِ، كلّ شيء أشبهَ بِكابوس.. حقيقةً هو كابوسٌ لا ينتهي بِشهقةٍ أو بَسملة..حركتُ مسقطَ البابِ نحوَ اليسارِ وَاندفعتْ أمّ يحيى نحوي مُرتميةً أمامي على الأرضِ وَتبكي، ما أدركتهُ منْ حديثها الّذي لا يخلو منَ البكاء والارتجافِ الحادّ أنّ ذلكَ الرّجلِ الأخيرِ هوَ ابنها وسام!

ثمّ تداركتُ تِباعًا أنّه تبعني أثناءَ عودتي لِلمنزلِ وَأخي كانَ خلفَهُ مُباشرةً.. وَأنا طِوال فترةِ إقامتي كنتُ مُغفلةً لِدرجةِ لمْ أنتبه يومًا لِابنها المدعوِ وسام وَمنْ يكونُ وَكيف يُشاركني العملَ في نفسِ المؤسسةِ دونَ أنْ ألاحظَهُ يومًا. وَتصلبتُ أمامَ يقينِ الخوفِ المحدقِ بي في شارعٍ ضيقٍ شعبيّ أمامَ مَنزلٍ أشعرهُ يتهاوى معي لِاندفاعِ كلّ آفاتِ حياتي أمامي مُباشرةً، كنتُ قدْ هرعتُ لِلمواجهة!

أبي يصوّبُ بُندقيةَ الصّيدِ مُباشرةً نحوَ رأسي وَيصمتْ، لا أعلم ما السببُ الّذي منعهُ عن قتلي مُباشرة، ربما لأننا جميعًا ضحايا في هذهِ الدّائرةِ المُفرغة.أمومةُ أمّ يحيى دفعتها لَأنْ تقترحَ حلًّا جامحًا وَغاضبًا في آنٍ واحد.

فليتزوجا!

لِما علينا أنْ نفعلَ كلّ هذا …

انتفضَ ابنُها من بين يديّ أخي الحقوقي وَصُعقَ أبي، كانتْ الطّلقةُ الحقيقيّة حينما شعرَ بِالعطفِ العائلي حينما سقطتْ كلّ الأعرافِ تحتَ قدميّ أمّ وّفتاها وَحينما رميتُ بِرأسي على صدرِ البوسطةِ دونَ خوفٍ منْ كلّ الأهوالِ.مثلُ أيّ حلّ تقليديّ كانَ بِالنّسبةِ لِأبي وَلهما نصرٌ عظيم!

شابٌ يرى حياتي على كفيّ عِفريت مغمورةً بالخطيئةِ وانتكاساتِ ردودِ الأفعال على تعاليمٍ تُشبهُ البطركيّة القديمة،ثمَ يَنتشلني إلى حياةٍ متألقةٍ،كان كلّ هذا لهُ،أُعجوبةَ قلبهِ!

لذا يا ابنتي إنّ المحبينَ الحقيقين همَ الّذينَ يراقبونَ كلّ مساراتكِ ثمّ ينتشلونكَ نحوَ حياةٍ أبديّة، كَأبيكِ تمامًا!

وَأما أنا أستحقُ النّهاياتَ الفارقةَ معكما لأني “نوّار”.

 

شارك

Share on facebook