يوسف الشوفي يكتب: (بطل الأبطلين) … وحكاية القهر المستمر

بابا بطل.. بابا بطل الأبطلين.. هكذا كانت تقفز طفلةٌ في قصة (بطل الأبطلين) لإبراهيم صموئيل, يحملها على كتفيه, يطير بها, يتحدّى لأجلها العالم, فهو الأب البطل, ثمّ .. بكل بساطة يُضرب ويُجرّ أمامها مُقيّداً مذلولاً, لتحلّق الكلمات إلى لا شيء وهي تنظر في الفراغ.
مؤلم لحافة الفراغ, والوجع يفتح ألف سؤال ينزُّ, نكتفي من الوجع السوري بثلاثة:
ما التربية والثقافة التي تربّت عليها هذه الطفلة لتصل لهذه الصدمة؟
ماذا حدث لها وماذا سيحدث للطفل السوري بعد هذا؟
كيف نتجاوز عقد الهوية بين الأسطرة والاختزال؟
بابا بطل.., تعود بنا إلى المخيال الشعبي, حيث البطل في السيَر والحكايات يتجاوز صفات البشر ليقترب من الإله, هذا ما يتمنى الناس الحصول عليه فيسقطونه على أبطالهم, وبذلك يختزلونهم بصفة البطل, فكلّ أسطرةٍ اختزال.
وتستمرُّ هذه الثقافة بعلاقاتنا ورؤيتنا لأنفسنا وللآخر, فلا ننسى ردود الفعل المستهجنة حول ما قدّمه الراحل ممدوح عدوان عن شخصية الزير سالم, والذي ظهر عاجزاً وضعيفاً, وكيف قابل بعض (المثقفين) رسائل الحبّ بين غادة السمّان وغسان كنفاني, فبرأيهم أنّ الثائر الفلسطيني لا يحبّ ولا يضعف.
وليس آخرها النقاش المستفيض منذ عامين حول محمود درويش وما كتبه سليم بركات, وكأنّنا بحاجة لمعرفة تفاصيل حياة درويش لنقرأ شعره!, أو نختزله بصفة ما, ناسين ومتناسين أنّ الفن والأدب تجاوز هذا السؤال, عبر الإعلان عن موت المؤلف, لنواجه النص بكل طاقاته.
وفاءً لدرويش ولكرامة الإنسان وتلك الطفلة, يجب ويمكن نقد هذه الذهنية, التي تحجّم الإنسان في ثنائيات: الماضي والحاضر, الأصالة والمعاصرة, الخير والشر وغيرها, هذه الذهنية متأخّرة تختزل الموصوف بصفة تطغى عليه, كما تختزل حتى الأحزاب والأوطان والطوائف بصفة واحدة. ثم يجعلونها لقهرٍ أو لظلمٍ أو لنقصٍ أسطورة لا تُمسُّ.
أليس في هذه الذهنية استبدادٌ للإنسان ولمعرفته؟ أليس الاعتراف أنّ الإنسان يحمل جميع المتناقضات هو إنصافٌ له؟ أليست الهوية اعتراف بالاختلاف والتناقض؟ ألا يجب أن نقرّ أنّ الإنسان أكبر من كل صفاته؟
لنفترض أنّ الطفلة من السويداء فنقول: ثقافتها من موروث السويداء ومن الإرث العربي والعالمي, وهي ابنة عائلة فلان, تحبّ كذا وتكره كذا, كلّ ذاك لا يختزلها ولا يمكن أن ننتهي من التعريف بها, هذه هي هويّتها وهي هويّات لا يطفى أحدها على الآخر, ولا تلغي واحدةٌ الأخريات, هي ابنة سورية سياسياً, وابنة كلّ الثقافات ثقافيّاً, وابنة عائلة كذا اجتماعيّاً, مواطنةٌ ولها وعليها حقوق دستوريّاً, أليس هذا ما يجب أن تتربّى عليه؟ لكنها ستُصدم, ستُقهر, ستنتقم من ذاتها قبل الآخرين, ربّما تلجأ من الاضطهاد الذي تعرّضت له إلى أسطرة شيءٍ آخر: طائفة, لغة, علم, شخص, سلاح, وهكذا هي ردود فعل الإنسان المقهور.
هنا سؤال هويّتنا لهذه اللحظة من عمر خرابنا وهزائمنا, حيث يُطرح دائماً الحوار والاعتراف بالآخر وعدم إقصائه.
ما يحصل أنّ القهر الطويل يأخذ أشكالاً في ظهوره لنا, وإحدى أشكال ظهوره تتمثّل في ثقافة الأمثال وتدبير الحال والشطارة, بشكل موعي أو غير موعي , أمّا الأمثال فحاضرة لتبرّر كل انتكاسة ونكوص لدى إنساننا المقهور.
هذه الثقافة تبرّر هزائمنا, تبرّر السلوك والطبائع, دون الحاجة للوقوف عندها ووعيها, وعي ما هو حاضرٌ فينا من موروثنا , ومن تجاربنا.
فكلّما ازداد الاضطهاد, ازداد الفراغ داخل الإنسان, فيحوله لمسخٍ ينهش داخله ليملأ الفراغ فيه, وليشكّل ظلاله على صورة الوحوش, هكذا يعيش المضطهد في صراعات وتناقضات لا يجد لها حلّاً, سوى بتغلّب إحداها على الأخرى, فتارةً هو الحمل الوديع, وتارةً هو الشاطر المدبّر لأحواله, وأخرى هو العاجز الذي يسرق كلامه الرغيف والوقود والطوابير, هو الحالم بحرية يعجز وفق تناقضاته عن وصفها أو حتى عن معرفة ما يريد.
القهر مزروعٌ بعناية في تلك الثقافة وتلك الثنائيات, روته بسخاء أيادي المتسلطين والمستغلين وما أكثرهم, أمّا الخاسر والمنهزم الأول والأخير فهو الإنسان فينا.
في رواية عدّاء الطائرة الورقية ذُكر أنّ السرقة هي الجريمة الأولى, فالقتل يعني سرقة حياة من إنسان, وهنا فإنّ سرقة بسمة من طفلةٍ تعني القتل نفسه, سرقة طفلةٍ من براءتها تعني مسخها في موروث على شاكلة أي صنم فيه, وسرقة حقّها بابيها يعني قتلاً لكل رابطة إنسانية قد تجمعنا.
وفاءً لسورية, للطفلة, للإبداع, للجمال, لدرويش في ذكرى وفاته, فلنعمل على تعرية كل شيء أسطر واختزل الإنسان, أم أنّنا ما زلنا بحاجة لصدمات أخرى كصدمة الطفلة حتى نستيقظ على أوهام صارت فينا حقائق ومسلّمات وطبائع.

شارك

Share on facebook