رجل ثلج لا يذوب ل”فدوى العبود”

القصة الفائزة بالمركز الأول لمسابقة أبجد بدورتها الثالثة

 

لم يبق شخص في قريتنا والقرى المجاورة –من المسافرين الليلين والجنود الذين يلتحقون فجراً بثكناتهم؛ وقطاع الطرق واللصوص الذين يكمنون بين الأشجار ومفارق الدروب؛ فالأشباح الذين يمرون أثناء مواسم الصقيع-لم يعرف بأمر السيارة!

رغم ذلك، فلا أحد غيرنا نحن أولاده السبعة يعلم شيئاً عن مواصفاتها الدقيقة؛ كلونها الأبيض، والتابلو الرمادي حيث توضع المفاتيح وأشرطة الأغاني وعلبة عطر صغيرة كان والدي قد وجدها بين ثيابي.

لا نعرف كيف ومتى استبدت به هذه الرغبة، ومع أن المرء يكفيه أن يملك عينين وقدمين للتقدم في العالم، لكن والدي لم يعرف استخدامهما أبداً، كان عرضة لمكائد الآخرين، وسخرياتهم، بجلوسه الدائم جنب شجرة يابسة أشبه بسمكة همنغواي، وحديثه المتكرر عن أحلامه، ولأن كثرة الكلام تورث الخيبة-كما تعرفون- فقد خابت كلها، ولكن الحياة تعطي تعويضات عادلة، فقد منحته القدرة على تجسيد أفكاره، التي تتحول إلى مشاهد وصور بمجرد أن يبدأ بالكلام؛ بحيث يكفي أن يوجه نظره نحو وجهة ما حتى تظهر مجسدّة على شجرة أو جدار وهو المكان المثالي، ويمكن للآخرين و بمجرد حديثه عنها أن يروها. يتوقف ذلك على شدة إيمانه بأفكاره وقوة عاطفته نحوها؛ ونادراً ما خذلته هذه الملَكة التي أبهرت كل من اقترب منه.

كانت الرغبة بشراء سيارة بيضاء، قد سلبت عقله تماماً.

في ظهيرة أحد الأيام وبعد عودته من نقل أحد الزبائن والبضائع إلى قرية بعيدة –راح يهذي بالسيارة. ولم يعد للحياة طعم خارج هذه الحكاية،
كان الزبون قد أعاده دون قصد إلى درب الجلجلة الخاص به، لقد توقف إحدى عشرة مرة، وكرر قصة حياته على مسامع الزبون الذي لعن ساعة تعرف إليه، ثم عرج على منحدر صخري، وقرأ بضع آيات وهو يحدق في الصخور التي دفنوا أخيه الرضيع أسفلها -والذي بخلافه وأخته الكبرى-لم يحتمل البرد والجوع. وكاد أن يقضي يومه هناك لولا غضب الزبون الذي نفدَ صبره وهدده إما أن يحرك دراجته الناريّة حالاً أو يدفنه بجانب شقيقه!

وكأنه اكتشف شيئاً مخفيّاً، راح يتحدث عن الماضي، وقد علق دولاب ذاكرته عند ليلة هروب جدتي وأطفالها الثلاثة هائمين على وجوههم هرباً من ثأر عائلي، ومع أنّ الأمور مضى عليها وقت طويل؛ إلاّ أن ليلة القتل تلك مازالت في ذاكرته، ومازالت خيوط الدم التي رآها تسيل من أحلامه كل ليلة فتلوث الأغطية. إلى أن أجبرته والدتي على النوم خارجاً بجانب شجرته اليابسة مع غطاء من الخيش.

كانت النقطة الأكثر إيلاماً تتخذ شكل سؤال ساذج، كيف أمكن للشاحنات التي تمر أن تتجاهل صرخات الأم وهي تحمل رضيعها المحتضر!

هذا السؤال تحول إلى أمنية، والأمنية التي ولدت من قهر طاغ أوصلته إلى قناعة تتمثل في قسوة البشر، ويبدو أن الأخيرين لم يخذلوا توقعاته فيما يتعلق بهذه الجزئية.

وبينما ينقي الشوك من قدميه، ويرى والدته تعرج من ألم قدميها بُذرت لوثة السيارة في مخيلته. وتكفلت ليالي الحرمان بإنضاجها على منقل الجوع وجمر البرد، إلى أن رواها بماء الحكايات، فتحت كل حكاية هناك بذرة يمكن إضافة حبكات أخرى فوقها. فالحكاية الأصلية بحد ذاتها كما تعلمون تافهة ولا قيمة لها؛ خذوا مثلاً حكاية ألف ليلة وليلة، رجل يقتل زوجته انتقاماً من خيانتها، لكن لاحظوا معي تفرعاتها ومتاهاتها المدوِّخة.

تبدأ كل حكاية كبيرة من شرارة، وقد بدأ حلم السيارة من ليلة الهروب تلك، كان يجمعنا حول مدفأة الحطب، يمسحنا بنظره كمن يأخذ تفقُّداً ثم يسألنا عن لونها.
فنجيب بصوت واحد: أبيض.
يطلب منا أن نكرر بصوت أعلى، تماما كما يردد التلاميذ نشيداً وطنياً، فيصبح الوطن حقيقة،

ما لونها؟
أبيض كالثلج.
لا يستغرق الأمر سوى دقائق، حتى يشِّف الجدار وتظهر السيارة؛ بيضاء لامعة بإطارات قويّة؛ وقد تدلت من مرآتها الأماميّة كرة زجاجيّة بداخلها هلام ملون.

لا بد أنكم تتساءلون، عن جدية ما نراه، كنا ننخرط في اللعبة، حدّ أننا نتبعه حال نهوضه وهو يحمل الصغيرة بين ذراعيه. بينما نصعد في الصندوق الخلفي.

(هيّا حان الآن برنامج ما يطلبه المستمعون)
يصفق بيديه (هيّا ياشباب، فلماذا مُنِحنا الخيال إذاً؟)

طلبات أخوتي كانت تتناسب مع أعمارهم وهي تتوزع بين السكاكر والشوكولا، والأغاني.

والدتي هي الوحيدة التي تجلس خارج إطار المسرح، وقد حظر عليها دخوله، فمذ صارت ترمي نكاتها بتنا نسمع صوت تهشم! كانت قادرة وبواحدة من سخرياتها أن تحزَّ عُنق فرحه اليومي؛ فيتهدّم في ثوان العالم الذي يبنيه مرة تلو أخرى!

لو حكيت لكم فلن تصدقوا، أننا صرنا مع الوقت نسمع صوت المحرك، نشعر بملمس معدن السيارة البارد، نستمتع بالهواء المنعش في الأعالي…
(لا بدّ أني أخبرتكم أنها كانت تطير)
نتوقف فوق المقبرة ويشير بيده: اصعدي!

تنسل عمتي مثل خيط دخان من مرقدها، وتجلس بجانبه، تتابع السيارة الطيران بينما يلتفت نحوها، يهز رأسه دليل الموافقة، يصادق على حديثها الذي ينساب دون أن تفتح شفتيها، يبتسم ثم ينظر للأعلى، يضحك أحياناً ويعانق طيفها المتشنج حين تجمح السيارة بنا محلِّقة في الأعلى فتبدو الأرض كنقطة حبر

أفضل أوقات عرض الفيلم، (فيلم خياله) هو لحظة خلوِّ البيت من أمي وزيارتها لعائلتها، وانقطاع الكهرباء، وهبوب الرياح في الخارج، نشعل ضوء الشمعة وهذه الأخيرة من المؤثرات المهمة-لتحول الجدار لشاشة عرض كبيرة، يعرض فوقها الفيلم نفسه كل يوم.
أحيانا نُجري تنويعات بسيطة، لكن سواء توقفنا في بستان لوز أو غابة سرو…أو أي مكان فسينتهي بنا الأمر بتقليب أسياخ اللحم والأكل بنهم إلى أن ننقلب (فنجد أنفسنا فوق البطانيّات وأمامنا كأس شاي وخبز جاف!)
في كل مساء يصعد خلف المقود، يعدّل وشاحه الخمريّ الذي يظهر كرقعة شطرنج فوق رأسه -رقعة لا غالب ولا مغلوب فيها-وفوقها لاعب وحيد هو الوهم ثم ينطلق بنا.

كان يترك لنا أحيانا أن نُدخل إضافات على فيلم حياته، كأن نختار نوعيتها، أو نتناقش حول الألوان المناسبة، صحيح أنه يفضل اللون الأبيض لكن لا مانع من النقاش وتبادل الآراء.
في بعض الأحيان يترك لأحدنا اختيار الطريق الذي يفضل أن نسلكه، أو الأغاني التي نفضلها، أو الفصل الذي نرغب فيه، أو الحيوانات التي نحب اصطحابها معنا، من الأرانب حتى السناجب حتى الدببة والنمور التي لم تقلَّم مخالبها، (فأرض الخيال بقعة آمنة كما تعرفون)

كانت أختي الصغرى ترفع أصابعها الأربعة. كما تعودت أن تفعل في المدرسة، وتطلب رجل ثلج لا يذوب!
-لكن رجل الثلج يذوب صيفاً. “يقول أخي مكركراً…
يغمزه ووالدي بتواطؤ ويمسد شعرها: سنصنع رجل ثلج لا يذوب.

يتحول الجدار إلى شاشة عرض، تظهر السيارة، تحت سماء بيضاء، يومئ بيده للغيوم فيتساقط الثلج بغزارة.

يااااااااه (يشهق الصغار)

يفرد يديه وينهض: لنصنع رجل الثلج. اتبعوني
ندور في المكان، نجمع الكرات الثلجيّة، تتجمد أيدينا، وتحمر وجوهنا، وتصطك عظامنا.
يعدّ إلى الثلاثة ويصرخ والآن: نقدم لكم رجل الثلج.
تغمض عينيها وتضحك…. تكاد تطير من فرحتها…

صار رجل الثلج بطل أمسياتنا، فمهما كانت حكاية الليلة وكيفما رويت، ستنتهي في سهل تغمره الثلوج. حيث يركض الجميع لصنع ذلك الكائن المبتسم على الدوام.

بدت لعبة الثلج أفضل من تخيل منقل الجمر وصوت هسيس اللحم ونضجه فهي لا تتضمن على الأقل أي تعذيب لنا (أما البرد فهو أمر مقدور عليه)

-هيا لنصنع رجل الثلج أين الجزرة؟ رجل الثلج يريد أنفاً…يا أولاد، لا بأس بحبة طماطم!
يشفُّ الجدار، ويظهر رجل الثلج في وسط الصندوق الخلفي، يبتسم وينظر نحونا وظهره للسائق.
يخلع والدي معطفه المهترئ ويضعه فوق كتفيه.
ما رأيكم؟ ها…
-انظروا رجل الثلج، ياله من رجل ثلج! تضحك الصغيرة وتقفز بمرح.
“دع الصغار ليرتاحوا فلديهم عمل كثير في الصباح”
نقفز من الصندوق ونتركه ذاهلاً في مقعد السائق.
الجميع باتوا يعرفون حكاية السيارة…

السيارة التي تصعد التلال والمرتفعات بسهولة وبدون تعب لأنها قوية وهي ذات محرك ياباني. وفي صندوقها الخلفي رجل ثلج لا يذوب (وهذه عبارة أختي الصغرى، التي ترافقه ممسكة يده من مكان لآخر)

يخبر الجميع عنها، المزارعين الذين يقلّهم… النازحين اللبنانيين الفارين من حرب 82 في جنوب لبنان…. رفاقي الذين كانوا يمرون كل صباح فيدعوهم لشرب كأس من الشاي، والذين صاروا يتظاهرون بأنهم لا يسمعونه.

في كل مساء، يحصي غلّتنا …. يضعها في جراب باهت، يمسحنا بعينيه البنيّتين اللتين تشوبهما زرقة غريبة وحين يطمئن لوجود الجميع، يأمرنا بالتحديق في الجدار

يتحدث عن قوتها ومتانتها…. ومواصفاتها الثابتة…يقفل باب وهم ويفتح باب وهمٍ أوسع… يبدل في مواصفاتها، يستعير مكوناتها من سيارات الآخرين. فالهيكل شبيه بسيارة فلان. والنوع كسيارة فلان الذي يملك سرباً من القاطرات والمقطورات دون أدنى تعب (كل ذلك وهو يحمل بندقية صيد ويجول في الغابات)

ودماغاً –يملك دماغاً-تتدخل والدتي!
يتجاهل كلماتها ويصفق: -جاهزون يا أصحاب!

نصعد في الصندوق الخلفي، وتصرُّ الصغيرة على الجلوس بجانب رجل الثلج.
يباعد يديه النحيلتين ثم يحمل جسدها الصغير ويرفعها في الهواء
-هوبا.
ياله من رجل ثلج!

“دع الأطفال ليناموا. في الأسبوع القادم لن يقدر الموتى على الخروج من توابيتهم”.

حين يشتد الصقيع وتفرغ الأسواق من الناس والبضائع؛ يجمع الحطب وحين ينفد الحطب. يحفر أساسات الشقق، وحين يزدهر الموت يحفر القبور؛ يرفع رأسه كل ثانيتين يمسح دموعه ومخاطه الذي يسيل بسبب البرد. يجيل بصره، ينفخ راحتيه، ويردد: سنرتاح من كل هذا حين تأتي!

بينما يتابع معطفه المهترئ عند الكمين التناثر والتقشر.

رفاقي في المدرسة صاروا يسألونني عنها؟ وحين أصحبه لمكان يسأله المارّة عن لونها؟

ذات صباح رافقته على دراجته النارية، توقفنا أمام مبنى زجاجي وأشار بيده.
كانت تقف وسط صالة العرض كفراشة كبيرة، وعلى بعد أمتار يقف حارس من الشمع يرتدي طقماً كحلياً وقميصاً سماويّ اللّون ومع أن الأخير لم يكن من ضمن المشهد -إلا أنه وكما تعرفون فإننا ومهما خططنا فالحياة لديها خطط أخرى-

ألم أقل لك! السيارة موجودة. قال بفرح واقترب نحوها بوجل ثم أخذ يلمسها. اقترب الحارس الشمعي منّا وراح يرمقنا بتلك النظرة الحيادية.

خصص يوماً من كل أسبوع لزيارتها (وهو اليوم المخصص لزيارة قبر والدته) والذي يبدو أنه نسيها. ومنذ لحظة وصولنا وحتى مغادرتنا، يجلس في المقعد الأمامي، يمسك المقود ويحركه يمنة ويسرى يضرب على عجلاتها ويمسد جلد مقاعدها -إلى أن أعلمه الحارس: إنه إما أن يشتري شيئاً أو يتوقف عن هذا العرض.

صرنا نراقبها من خلف الزجاج الذي يعكس صورة عينيه المجوفتين ووجهه النحيل.

اختفت أمسيات الجدار، والصورة الثلاثية، وتبعتها حسابات فلكيّة مرهقة -تثبت أن طريق الوهم أسلم وآمن من طريق الواقع-
في كل مساء تُنثر النقود ثم تحُصى ثم تُوزع، وتُرتب، الرقم على الرقم، والملكة على الملكة.

واحد…اثنان…ثلاثة…خمسمائة…ألف
لنعدَّها من جديد.
استغرق الأمر بضع سنوات-تبدلت الكثير من السيارات لكن سيارته كانت ثابتة في مكانها، ورغم أنهم يأتون بواحدة جديدة في كل مرة؛ إلاّ أنه كان مصرَّاً أنها هي ذاتها. وأنه بانتظار الصباح الموعود سيواظب على زيارتها.
إلى أن أتى الصباح الموعود، تقدمنا من طاولة رجل الشمع؛ وضع والدي النقود بثقة أمامه فابتسم الحارس وكانت أول مرة يبتسم بها….
سأل الرجل الشمعي إن كان بإمكانه قيادتها، فابتسم الأخير وأخبره أنها صارت ملكاً له.

في الأشهر اللاحقة، نشبت الحرب، أشعل الشبان الغاضبون الإطارات، كسروا مراكز حكومية وتلوث النهر بلون أحمر. تهدّم بيتنا، ومعه الجدار الذي كانت الحكاية تعرض عليه، وقضت أختي الصغرى تحته.

فرّ الجميع في الدروب الوعرة، وضعت حقيبة ثيابي أرضاً واتجهت نحوها، نزعت المفتاح منها. فجذبه من يدي

(سيحطمونها إن أقفلتها!)

شحبَ وجهه ونظر إليها، أما السيارة وكأن لها روحاً، فقد هرمت فجأة وتحولت من فراشة جميلة إلى جرادة محنّطة بعينين ميتتين.
…كانت تلك آخر مرة أراه فيها.
اختفى والدي واختفت السيارة…. لا بدّ أنها قررت التحليق وراءه،
إذا لمح أحدكم تلك السيارة سيعرفها!
إذا نظر أحدكم للسماء سيلمحها….

يمكنكم رؤيتها تصعد التلال وتحلق فوق الغيوم؛ تنبعث منها أغنية “زمان الصمت” لطلال مداح …. من نافذتها الأماميّة تفوح رائحة عطر؛ وفي صندوقها الخلفي رجل ثلج (يرتدي معطفاً مهترئاً، ووشاحاً يتطاير هنا وهناك بفعل الريح الشديدة)

شارك

Share on facebook