موفق مسعود يكتب: ثلاث قصاصات هاربة

1: إنسحاب :
لا يزال أمامي مسافة قصيرة كي أبلغ منتصف السباق، كنت متعباً، لكنني يجب أن أتابع بتصميم وجَلَدٍ لا يضاهيني فيه أحد ..
ها أنا أقرر المضي قدماً … أشد عضلات ساقيّ وأخطو مصمماً .

ولكن، داهمتني كلمة سكنت في مخيلتي كذبابة دخلت عبر أذني إلى تلافيف دماغي : كلمة / انسحاب /، وفكرت وأنا أعدو، بأنني لم أنتبه يوماً إلى أن كروية الأرض والأشياء تجعل التقدم نحو الأمام بعد منتصف الطريق هو انسحاب عجول نحو الوراء، حيث تعيدك الكروية اللعينة نحو نقطة البداية، حيث المصب هو عدم النهاية، فتحت عيني بدهشة، هارباً من الأفكار، ونظرت حولي، كان الجميع يهتف ويصفق لي باندفاع وحماس : إلى الأمام … برافووووو .

2 : المقعد الذهبي.
أنا العاشق الذي رأى رؤوسكم المزدحمة بالسكاكين، لن تجدوا في مخيلتي سوى قُبلاً لم تحدث، وبينما تنهشون لحمي، سأحدثكم عن قبلتي الأولى .
ثلاثة وثلاثون عاماً فصلتني عن تلك القبلة، دون ذلك، قطفت الكثير من القبل السريعة الخاطفة والملولة، الفاترة والعميقة النافرة والناعمة والهادئة والخفيفة … وفي كل مرةٍ ، يستقّر الطعم الفريد والمختلف، ويحتل مقعداً ذهبياً في ذاكرتي … مقعد القبلة الأولى ..!
لكن تلك القبلة التي أنتظرها هذه اللحظة، أزاحت كل الذكريات المتعلقة بالشفاه وبخار الرئات الملتهبة … مَسَحتْ كل الأثار السابقة للقبل عن جدران روحي، وأراني أصبح خفيفاً فارغاً من الذكريات، هذه اللحظة لا تسكن مخيلتي سوى أزمنة الإنتظار.. وها أنا أنتظر … ثمة أطياف تثرثر حولي .. الحمقى يظنونني ميتاً .. !

كم هم غرباء عن أنفسهم أولئك الذي كنت منهم !

3: سيد الحقيقة.
ذات صباح وجد تُّ الحقيقة، كنت أحفر قبراً لجارنا الميت، أوكلوا لي هذا العمل البارحة مساءاً وشكرت ألله على هذا العمل، فمنذ سنواتٍ طويلة كف البشر عن دفن موتاهم، لأن جميع من ماتوا ، فعلوا ذلك بعيداً وأصبحت مهنتي كحفار قبور .. من الماضي .
وجدتها في صندوق عتيق، لوهلة ظننت أنه مليئ بالمجوهرات، لكنني حين كسرته لم أجد به سواها ، الحقيقة الحارة، خشنة الملمس.
وقفت أمام الجميع في الساحة وصرخت منتشياً، لقد وجدت الحقيقة.. ذهل الجميع وتحلقوا حولي بعيون خائفة وبدأوا يتهامسون بخوف ملتبس بالمتعة، صرخ أحدهم
ـــ أرنا إياها يا رجل ..
لكنني رفضت وصرخت : أنا مالك الحقيقة
خبأتها في مكان لا يعرفه أحد، كنت سيداً يمتلك الحقيقة بعد أن عشت عمري حفاراً بائساً للقبور.
أمضيت سنوات عمري حارساً للحقيقة، أخرجها كلما أصبحت وحدي وأتأملها منتشياً ولم أجرؤ على مشاركتها لزوجتي وأطفالي .. عاش جميع من حولي أسرى لحقيقتي ، وها أنا الآن أدفنها من جديد ناقماً على خسارة عمري حارساً بائساً لها، انفض الجميع من حولي ، وعبر سنوات طويلة صنع الأطفال حقائقهم الصغيرة واعتنق العشاق أوهاماً لا تظاهى وخبزت الأمهات خبزاً وقصصن حكاياتٍ كثيرة عن حقائق غريبة ومدهشة .. كانت الحقيقة التي وجدتها تذوي وعندما سألت راعياً مسناً التقيته في البرية عن سرّ موتها البطيئ وهي في حوزتي قال بصوت حاد كالظهيرة : دعها تحت الشمس ربما تعيش من جديد.. دونك

شارك

Share on facebook