أسامة هنيدي يكتب: تربية الحرية

ربما يتساءل أحدكم لماذا يبدو هذا العنوان ركيكاً منذ البدء فهل هناك من معنى مثلاً لذكر عبارة الحرية ولدى الكثيرين يكمن اعتراض آخر على العنوان وهي جملة تربية الحرية وسأحاول التوضيح في السطور التالية ما السر وراء الذهاب وراء عنوان أعده ومن البداية عنواناً ضرورياً بل وشرطاً لازماً للخروج من ظلامنا الذي أطلنا المكوث فيه والذي استحال جزءا لا يتجزأ من شخصيتنا الإنسانية.
وسأبادر الى القول ردا على الاعتراض الأول بان مفهوما كالحرية ليس بسيطا كما يتصور البعض وسأسوق امثلة حتى ولو كانت بسيطة على نماذج اجتماعية نتعايش معها يوميا ولربما عبرت بأساليب غاية في البساطة والعفوية لكنها وفي نفس الوقت امثلة موجودة ولها ما يبرر لها موقفها الحياتي ولعدة أسباب لسنا الان في معرض التدليل عليها كل ذلك لاقول دون تردد بانه نعم الحرية تحتاج الى تربية ثم سابذل ما استطعت من جهد لأوضح لماذا قلت كلمة عربيا وإذا قال قائل وهذا جدا مشروع:
هل ثمة حرية عربية وحرية كردية وحرية أوروبية بل وحتى ضمن الأعراق والمذاهب والقوميات هل يختلف مفهوم الحرية عند الأوروبي عنها عند العربي وعنها عند الأمريكي او الاوقيانوسي او الافريقي بل وضمن الأديان والمذاهب التوحيدية منها وغير التوحيدية اوليست الحرية هي الحرية التي فطر عليها جميع الادميون وبالتاكيد لن أصرخ مع بعض الصارخين بعبارة مكرورة من تراث كان له سياقه التاريخي والمعرفي والذاتي الذي ربما يقع في تناقض فيما يعتقد والذي اذا فجعته بسؤال من زاوية أخرى حول موضوعة الحرية ربما أرى وجهه قد امتقع مستذكرا كلام الاله مرة أخرى والان انا اعني تماما الخليفة عمر بن الخطاب وصرخته الشهيرة : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا سارد على الفور مؤيدا عمر لكن فاهما وعارفا ومدركا ومعاصرا لما طرأ على المفهوم من تغير في الاستخدام لابل وفي فهمه له في تلك اللحظة وكيف افهمه الان فيما يفصلني عنه من الفية وبضعة عقود من السنين كفيلة بالتوقف عندها كيف لا ونحن وبصراحة المشتغلين في حقل الفلسفة مدينون للدرس الأهم الذي علمنا إياه هيراقليط: لا يستطيع الإنسان أن يستحم في مياه النهر مرتين.
في العام 2013 وبينما كان صديقي في أحد المولات التجارية عقب مظاهرة سياسية مطالبة بالحرية وإذ بحديث بسيط يدور بين سيدتين فتخبر الأولى صديقتها بوجود مظاهرة في الشارع منذ ساعة فتنبري صديقتها للقول وبحرفية:
أي يختي بدهم حرية بدهم الناس تمشي بالزلط.
صديق اخر لي لديه راي سياسي معارض ويعمل كمدرس وقد لمس زملاؤه دفاعه عن الثورة التي حصلت في سوريا عشية الخامس عشر من اذار 2011
دخل اليه أحد زملائه قائلا:
شفت جماعتك شو عملو؟
قطعوا رؤوس الناس هذي الحرية اللي بدكم ياها.
وبالطبع لم يرد صديقي على هذا الخطاب لانه أيقن ان النقاش مع من يصنفه سلفا شريكا على الأقل أخلاقيا في جريمة يرفضها غير مجد وبالتالي فضل الصمت.
لذلك انا ارمي بعنواني هذا الى ما يقبع وراء تلك الأسباب التي دفعت الأول لهذا الفهم السطحي جدا لمفهوم الحرية والذهاب مباشرة نحو الجسد لمطالب الحرية السياسية والحقوقية والقانونية والمعمدة بالدم على مساحة أتراب يقتلون على مدار الدقيقة والثاني لهذا الاتهام السريع لمجرد شبهة الانتماء لتيار المقهورين والمسحوقين بل والمقتولين، ربما يشكل هذان المثالان البسيطان لكن الموحيان جدا لما أنا بصدده من عنوان أولا وثانيا ربما يسبغان شيئا من المشروعية على ضرورة تربية المفاهيم وخصوصا مفهوم الحرية وتبييئه.
وعندما أتحدث عن التربية لمفهوم ما فأنا أكاد أجزم أنه ليس ذلك النموذج من التربية بمعناها الفطري البسيط والذي فعله أهلنا على نحو متفاوت تبعا لمستوى ثقافتهم ووعيهم كما أستطيع أن أجزم أنه بعيد كل البعد عن أذهان المؤسسات التربوية التي نشأنا في كنفها والتي لم تكتف بأنها لم تسهم في تنمية شخصياتنا وملكاتنا كأطفال ويافعين وشباب بل انها أجهزت بعقليتها الأيديولوجية على كل ذلك وجعلتنا نسخا رديئة لما يجب أن نكون عليه بل الأسوء أنها كانت كآلة تصوير عالية الدقة في جعل ملامحنا ولغتنا والأخطر ذهنيتنا نسخة واحدة لا تشوبها محاولات المس والاختراق بل كان للمحاولين فيها شرف النبذ الاجتماعي والسياسي وبكثير من الأحيان الأخلاقي.
إن هذا التراكم الذي أرساه النظام الاستبدادي على مستوى التربية بأدوات خبيثة أنما فعل فعله عبر الزمن وبعدة مستويات وصولا الى لحظة الانفجار الحتمية والتي ولدت فيما ولدت معها أجيالا بمصائر حائرة غير قادرة على الأقل نظريا على فهم واستيعاب ما حدث اللهم الا النازع الأخلاقي الذي نما عند الكثيرين من الشباب والذين اندفعوا للعمل الأخلاقي والإنساني لكن بسكون في حالة الوعي النظري وهذا ليس عيبا على الاطلاق بل انه مطلوب ومحمود لكن وللأسف بقي الكثير منهم بعيدون عن التعاطي بما فوق هذا التحرك وأعني الشأن العام ولهذا أسباب كثيرة وخاصة في مجتمعنا لعلي كنت قد أشرت الى جوهره في ملاحظتي السابقة حول النموذج التربوي المعمول به منذ عقود مضافا اليه الخبرات السابقة لأجيال سابقة لم تتقن العمل على التأريض المجتمعي لأفكارها بل انها ظلت متمترسة حينا وراء أيديولوجيا والتي تشبه الى حد كبير من تناصبه الثورة فلم تكن قادرة وعبر السنوات على الإتيان بأي جديد لا على مستوى النظر ولا على مستوى العمل السياسي بمعناه الحقيقي الذي ينطوي على الممكنات والتحرك بذكاء وبخبث أحيانا وبالواقعية المطلوبة في قراءة المتغيرات وحينا آخر كانت أسيرة تجربتها السياسية المحدودة مشفوع خطابها بمصطلحات تعود الى سياق تاريخي مختلف ووضعية اجتماعية فارقة ولم تستطع اجراء ذلك التحديث المطلوب بلغة الكومبيوتر على ذاكرتها المليئة بالنكسات ولا المراجعة الضرورية لمواقفها حتى النظرية منها وخلا خطابها من أي فهم متقدم لموضوعة الحرية الا اللهم من خطاب أخلاقي لا يتسق مع طبيعة السياسة كثيرا وشعارات لم تقدم أو تؤخر في عالم لم يعد معنيا كثير بالشعارات وما شابها في عصر ثورة المعلومات بل وانها اكثر من ذلك تحولت الى عنصر منفر بدل ان تكون عنصرا جاذبا وحدث ذلك في لحظات كان الشباب في حاجة ماسة لمن يقارع مشروع تنويرهم وحريتهم فبدل أن يستفيدوا من تجارب هؤلاء أصبحت هذه الفئة عبئا عليهم وحجر عثرة في طريقهم الطويل.
ولكل ذلك تبدو عبارة تربية الحرية مشروعة أكثر من أي وقت مضى لكنها بالتأكيد بحاجة الى جواز مرور من عدة جهات لعل أولها التربية المنزلية القائمة على مزيد من هوامش الحرية الواعية الأمر الذي يحدث لكن بتدرج بطيء أما جواز المرور الثاني انما هو المؤسسة التربوية شديدة الخطورة والتأثير والتي ان لم تتغير ذهنيتها باتجاه الذهاب الى مناهج تؤسس للسؤال وتنمي الملكات النقدية عند الطالب الخارجة من أسر التلقين الرديء التعليم المواكب للتقنية المثمرة جدا معيدة النظر بجدية بدور المعلم الحالي وما في شخصيته من خطايا مؤهلة إياه للعب دوره التحريضي معرفيا ، الكاريزما تي القادر على رعاية المعرفة بعناية العارف غير المنتظر للراتب الحطام أمام صرافات الحكومة وبنفس الوقت القادرة على كسر الصورة النمطية عن العلوم الإنسانية والتي اعتقد أنها ستكون شديدة الخطورة والأهمية في الزمن القادم وعن التعليم المهني ذو السمعة السيئة في الوسط الاجتماعي ، أعتقد أننا دون أن نباشر العمل والضغط بكل الوسائل المتاحة لفعل هذه الخطوات سنبقى في حالة مراوحة تاريخية لدرجة سنصبح معها كما نحن الآن ووفق المقاييس العالمية المنطقة الأكثر خطرا في العالم وبالتالي لن نحصل على حريتنا ، فالحرية طفل بحاجة لمن يرعاه وبكلمة واحدة لمن يربيه.

شارك

Share on facebook