كلٍ منهم يحمل صرتهُ ، وبسيران في غبار البرية المفتوحة ، كانا صامتين ، وقد تعلما منذ الصغر أن الصمت هو فضيلة شاهقة، لا يمكن لكل خطايا الأرض أن تتجاوزها ، ليس سوى صوت أنفاسهما المتقطعة وهما يخبّان تحت الشمس الحارقة بحثاً عن مكان صالح للعيش ، فجأةً ، زعقت حدأة فوق رأسيهما ، شعرا معاً بخجلٍ مكتوم ساحق، إذ كيف لحدأة أن تصرخ بينما لم يتجرأ أحدهما على الصراخ يوماً ، احتقن وجه أحدهما وخرج صوته متهدماً وخفيضاً :
– إلى أين تذهب ؟
– تقصد إلى أي الأمكنة أتوجّه ؟
– وما الفرق ؟
– الجميع ذاهبون كحالنا أنا وأنت إلى مكانٍ يجلسون فيه ما تبقى من أعمارهم وباحثين عن لحظةٍ يستطيعون فيها أن بفكروا بحرية حتى الدهشة بأنفسهم .. ولكي يكون بمقدورهم أن يندموا بما فيه الكفاية على أيامهم القليلة القادمة
– لا أعرف كيف ، ولكن أعشق أيامي القادمة كمراهق ينتظر فتاته ، لا أندم على ما سيأتي ، بل على ما ذهب .. لو كنت شجاعاً بما فيه الكفاية لما وصلت إلى هذه الحال
– هذا هو الوهم .. ما تقوله هو الوهم
– كيف ذلك ؟! إنني أشعر بما أقوله لك تماماً !
– نعم إنها قوة الكذب !
– الكذب
– نعم … يكفي أن تنظر إلى وجوه كل النادمين على الماضي ، إنهم لم يبدأو بالندم إلا بعد أن آوتهم هوامش المدن كي يندموا بسلام .. إن الحرب لم تقع في محيطهم ، ولكن تأمل فيما يفكرون وكيف يتحركون ..! إنهم موتورون وقساة .. ليس بفعل الحرب … بل بفعل انتظارها ، ذلك الإنتظار المتدفق من اليقين الكاذب .. في أنهم خارجها
– تتحدث نيابة عن القدر ؟!
– في الحرب … لا يتحدث أحد سوى نيابةً عن القدر
– وماذا عن الحياة ؟!
– الحياة .. نعم صحيح .. أين الحياة من كل ذلك !
– أنا الذي أسألك .. !!
– لا فرق .. الأسئلة تعبر .. لا يهم من ينطق بها
– ( شارداً ) الأسئلة تعبر .. حقاً .. تعبر كأي غريب لم يجد مكانه في أحداق الآخرين .
يعم الصمت من جديد ، بينما الحدأة تفرد جناحيها في الفضاء المفتوح وتزعق غير آبهةٍ بكائنين يسيران على غير هدىً ، وهما يحملان صرر الكلام الناشف على ظهريهما .
