أحييكم جميعا أيها الأخوة والأخوات، يسرني ويسعدني هذا اللقاء، حقيقة الحديث أمام مثقفين أمثال حضراتكم حول قضايا فكرية يكون من الصعب قليلا على المتحدث، إن مادة الحوار التي اجتمعنا عليها اليوم هي الهوية السورية، كيف تشكلت؟ ما هو تعريفها؟ ما هي أهدافها؟ ما حقيقتها؟ ما مضمونها؟ هناك تعريفات كثيرة للهوية الوطنية لا سيما السورية، تتلاقى أو تختلف بالمفردات ولكن تتلاقى في المضمون، باختصار شديد: هي مجموعة من الميزات والمواصفات الإنسانية لجماعة بشرية تلتقي عليها وتؤمن بها، ضمن حيز جغرافي معين، هذا الحيز الجغرافي هو الوطن، وهذه الجماعة البشرية هي الشعب. تضم هذه الهوية جملة من العوامل: العامل التاريخي، اللغة، الثقافة المشتركة، الآلام والآمال المشتركة، وأنتم تعرفون كثيرا عن هذه المسألة.
لكن كيف تشكلت هذه الهوية ومتى تشكلت؟ في تقديري وفي رأيي المتواضع أنه كان هناك في المنطقة وعبر عصور كثيرة دولة، والدولة هي شرط أساسي لتشكيل الهوية الوطنية التي تقوم على جغرافية معينة، دولة المماليك في مصر مثلا كانت تشمل مصر وبلاد الشام. ولكن لم يكن هنالك آنذاك في القرون الخوالي، في القرن التاسع عشر، تفكير بمعنى الهوية وطنيا أو قوميا.
مع أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ازداد تعسف الأتراك بحق الأعراق والقوميات غير التركية، وبدأوا يضيقون على هذه الانتماءات من أجل فرض سياسة التتريك الذي جعل كل عناصر الدولة العثمانية أتراكا، وفرض اللغة التركية وجعلها اللغة الرسمية في التعليم والإدارة والجيش، وأي شيء يتناول القضايا الفكرية يتم تداوله باللغة التركية.
هنا كردة فعل بدأت القوميات الأخرى ومنها القومية العربية بالشعور بهذا الظلم الصارخ, فبدأوا يتنادون لتشكيل جمعيات منها العربية الفتاة, التي بدأت بشكل سري في البداية في باريس, وبدأت بالمطالبة بحقوق العرب, تترجم ذلك على أرض الواقع عند إجراء انتخابات في زمن الأتراك الاتحاديين, لاختيار مندوبين لمجلس المبعوثان, وذهب الممثلون الذين ننحني لتاريخهم ونضالهم إلى إسطنبول, وبالفعل تحت قبة مجلس المبعوثان شكلوا مجموعة عربية أخذت تطالب بالحقوق العربية, ومنها تعليم اللغة العربية وأن تكون اللغة العربية لغة الدواوين ولغة كل الجوانب الإدارية, وطالبوا بالإصلاح والنهضة ونشر التعليم.
وعندما أدركوا ان الاتحاديين يقولون شيئا ويضمرون شيئا آخر، بدأوا بالعمل من أجل قيام كيان عربي، فتشكلت جمعيات على أساس أن تشمل بلاد الشام ومصر والعراق، منها العربية الفتاة وجمعيات أخرى.
اشتد ظلم الاتحاديين ورفعت المشانق في بيروت وفي عاليه عام 1915, وفي دمشق عام 1916, وأسلمت كوكبة من أحرار بلاد الشام الروح فداء للأمة العربية.
لكن لا بأس أن أعود قليلا للخلف: الهوية تحتاج إلى جغرافية، تحتاج إلى شعب، ويجب أن تندمج الناس لتدافع عن هذه الهوية وتنبري للتمسك بها، ولكن أيضا من مستندات هذه الهوية قيام الدولة.
في عام 1918 دخل الأمير فيصل دمشق وأعلن عن قيام حكومة وبرلمان من أحرار الشام, من حملة إجازات وليس إجازة واحدة، كابراهم هنانو الذي كان يحمل ثلاث شهادات جامعية، أي من المتنورين والمثقفين الذين تشربوا مبادئ الثورة الفرنسية، وعرفوا معنى الحرية والإخاء والمساواة وأهمية الدساتير والعقد الاجتماعي الذي يربط المجتمع ببناه الفوقية والتحتية مع بعضها البعض، ودعا هذا البرلمان لكتابة دستور، فصدر دستور عام 1920 مكون من 174 مادة، دستور حديث حتى انه في حداثته يعاصر هذه الأيام في بعض مواده، وسمى سورية المملكة العربية السورية، وتوج فيصل ملكا عليها، وأعلن الاستقلال قبيل ظهور غورو كما تعلمون حضراتكم، وكان هو الاستقلال الأول لسورية.
لكن هذا الدستور رغم أهميته ولد ميتا، كما تعلمون كان غورو يتحفز لاحتلال دمشق، هذا من جانب، ومن جانب آخر أن الدستور جعل من الأمة السورية أو من المملكة مملكة دستورية، فكان الملك فيصل ملكا يملك ولا يحكم الى حد كبير، غادر فيصل ودخل غورو وبدأت الثورات الوطنية.
سأختصر لأتيح لزملائي ولحضراتكم الحوار: بدأت الثورات الوطنية كثورة الشيخ صالح العلي، إبراهيم هنانو، أحمد مريود في الجنوب اللبناني، إلى أن تتوجت بالثورة السورية الكبرى التي غالبيتنا يتحدث عن تداعياتها وسيرورتها العسكرية ولا نقف عند تداعياتها في عاصمة الاحتلال الفرنسي باريس، وكيف جعلت من النواب الفرنسيين ينقسمون إلى فئات متصارعة فيما بينهم من جهة، ومع الحكومة من جهة أخرى، وأصبحوا ينددون بما جرى في معارك الثورة السورية ويطالبون بمحاكمة ساراي، المهم، لم تتمكن الثورة السورية من الاستمرار وأجرت انتخابات من أجل تشكيل جمعية تأسيسية وظيفتها كتابة دستور في البلاد وتستقيل بعد ذلك ليتم إجراء انتخابات وطنية لتحقيق ما أمكن من إرادة الشعب السوري.
جاءت الانتخابات فعلا وعملت فرنسا مع أذنابها، طبعا الجبل لم يكن مشتركا في تلك الانتخابات لأنه كان هناك دولة درزية، بغيضة كريهة مقيتة سموها ما شئتم، ومفصولة عن سورية. جاءت الانتخابات ونجح عدد من الوطنيين المثقفين الكبار، ومنهم مثلا فايز الخوري شقيق فارس، إبراهيم هنانو، تمكنوا على قلتهم أن يفرضوا على الاحتلال الفرنسي اختيار إبراهيم هنانو رئيسا للجنة كتابة الدستور، وهنا بيت القصيد، فالهوية تحتاج لدستور يحميها، وتم اختيار فوزي الغزي المحامي اللامع والوطني الكبير الذي كان يقود مظاهرات في دمشق تأييدا للثورة السورية الكبرى، وكان يأتي ويلتقي مع الثوار، وعلى الرغم من أنه لم يحمل السلاح إلا أنه كان مناضلا سياسيا كبيرا، اختير فوزي الغزي مقررا للجنة وكتب دستور من 114 مادة في 15 يوما.
عندما اطلع المندوب السامي الفرنسي على الدستور أدرك إرهاصات قيام الدولة الوطنية السورية من خلال هذا الدستور، الذي قيد إلى حد كبير سلطات الاحتلال الفرنسي ولم يترك لها سوى القيام بالبروتوكولات الدبلوماسية مع الدول الخارجية، وطلب المندوب السامي الفرنسي من فوزي الغزي إضافة المادة رقم 115 التي درسناها في المدارس.(هذه المادة قدمت مرتجلة وغير مكتوبة)
و طلب الاحتلال إلغاء 4 مواد هي التي تقيد سلطاته وتقدم للشعب السوري ثمرة كفاح أهلكم ودمائهم أيام الثورة السورية الكبرى، وأيضا رفضوا حذف هذا المواد، وقد قيل لهم بالحرف إذا لم تقبلوا بإلغاء هذه المواد سيتم حل الجمعية التأسيسية.
فدعوا إلى اجتماع وأقروا الدستور متجاهلين هذه التهديدات، فما كان من المندوب السامي إلا أن حل الجمعية التأسيسية واغتال بطريقة إجرامية فوزي الغزي.
دستور 1920 و1928 أيها السادة حددا الجغرافية، ومن المهم أن نقف عند تحديد الجغرافيا في هذين الدستورين، حيث نص على أن الأراضي التي كانت محتلة من الدولة العثمانية هي أراضي سورية، ولا يجوز التنازل عن أي جزء منها، وهذا يعني أن هذا الدستور لم يغترف لا بوعد بلفور ولا بدولة لبنان الكبير ولا بإمارة شرقي الأردن، أي كل أراضي بلاد الشام التي كانت محتلة في تلك الفترة من الدولة العثمانية هي أراضي المملكة السورية.
هذا الدستور حتى الآن أيضا له أهمية كبرى، فهو نص على كيفية إدارة البلد من حلال السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وحدد سبل لعدم تغول أي من هذه السلطات على السلطتين الاخرتين، وجعل من القضاء السلطة التي لا تعلوها سلطة، فكان الدستور يلبي جدا طموحات ثوار سوريا حيث كان ينبئ بقيام الدولة الحديثة، فقد حدد ملامح التعليم وكيف سيكون مجانيا حتى المرحلة الإعدادية، وأن يكون رسميا ويركز على الجوانب الوطنية والقومية.
هذه الأفكار أظن، وعسى أن أكون على صواب، تلبي ما طلب مني من قبل منظمي الندوة حول الهوية السورية، أتحدث باستحياء عن تاريخ الهوية السورية أمام حضراتكم لأنكم جميعها قد تحاضرون عنها الآن، وزملائي أيضا سيقدمون شيئا جديدا أستفيد منه أنا في هذا المجال، شكرا لحضراتكم ولحسن استماعكم.