مداخلة الدكتور جمال الشوفي

هيغل يقول: العودة للبدء هو التطور، والعودة للبدء هي العودة لمبادئ الكون، فوجود الأضداد وتراصفها جنب بعضها يزيد من استقرار الشر واستعصاء النفوس وتغليب سلطة الغلبة على سلطة العقل.
بينما كان العقل هو هوية الوجود وشرط استقراره، كان الإنسان يغالب نزواته ورغباته للاستمرار بالحكم والسلطة وحكم من يستطيع.

حقيقة أردت ان أدخل من هذا المدخل الفلسفي لأقول: أن العقل بوصفه القسمة الأعدل بين البشر، سواء أقامته الحكمة الدرزية أو أقامته الفلسفات القديمة أو الحديثة، يميز بين ثلاثة أمور:
أولاً: هو الفرق والحد والتمييز ، الفرق بين الخير والشر، والتمييز بين الحق والباطل، وإقامة الحد على النفس الأمارة بالسوء.

ثانيا: إظهار القيم الأخلاقية وقدرة الفرد على صون هذه القيم والدفاع عن الحق.

ثالثا: تحقيق العدالة في كل أطوار الزمن والتاريخ.

فالبشر عبر التاريخ ، ونحن مازلنا نعيد الكرّة من أولها، فالأسرة مسؤولة من رب الأسرة في تأمين الغذاء والاستقرار والموطن والدفاع عن الأبناء وتأمينهم في المستقبل، وكذلك هو حال الطائفة والقوم والمجتمع، وهذا ما أسميناه تاريخيا سواء بالمعجم العربي أو البريطاني او في أي معجم من المعاجم بالوطنية Nation أو Homeland

ويجب لقيام الوطنية تحقيق شرطين: تحقيق الاحتياجات الأساسية، والاستقرار والأمان. ولكن ماذا لو بقيت هذه الاحتياجات منغلقة على ذاتها؟ بمعنى كلً مكتفي بما لديه (أنت وأنا مكتفون بأسرنا) وابن دمشق مكتفي وابن حلب مكتفي كل بمدينته وقومه، ما كان ليحدث التعاقد الاجتماعي بين المختلفين.

البوذيون قبل 2000 عام ق م والذين لديهم حكمة نورانية هائلة، قالوا أن البشر كانوا قبل الخلق أكوانا نورانية، عندما بدأ التطور _وهذا يتفق مع فكر داروين والفلسفة الحديثة_ حيث أن الإنسان بدأ ينظر إلى ما عند الآخر ويرغب في الاستحواذ عليه زادت المظالم والمفاسد، فابتكروا فكرة أن يحتكموا إلى سلطة من بينهم لكنها لا تُستأثر لجهة وحيدة، فابتكروا فكرة أن تكون السلطة موضوعية تحكم فيما بينهم سموها “راجا” المختار العظيم، ومن وقتها بدأ العقد الاجتماعي.

وبالعودة إلى التاريخ فإن الربط بين الأنماط الاجتماعية وبين الدولة تعني بالضرورة الفرق بين منظومة الدولة ومفهوم السلطة.

إن السلطة _أي سلطة يمكن أن يقال عنها إنها وطنية وفق ذات المنظور، أي يحق لها الدفاع عن نفسها تحت أي شعار: مؤامرة، حماية أقليات، تحت أي شعار كان,,, وسأضع كل المبررات الإيديولوجية لذلك، سأذهب باتجاه الانصهار بالبعد القومي أو البعد الأممي أو البعد الإسلامي أو إعادة إحياء الهوية الدرزية! أو أي شيء وأسميها وطنية فأي جهة لديها المبررات الكافية لذلك وتستطيع أن فرضها على الآخرين.

لكن العقد الاجتماعي الذي جاء بعد النهضات الفكرية في أوروبا شكلت نموذجا مختلفا، فتوماس هوبز المفكر الإنكليزي العظيم قال: لا يمكن للبشر أن يصلوا لضرورة الاقتناع بالاستقرار والانتظام إلا بعد أن يحتربوا فترة طويلة ويوصلوا لقناعات مشتركة، (ذبحتك وذبحتني وبعدين؟) فكان أن تأسس الدستور العصري والحديث في الدولة البريطانية تحت عنوان الاصلاحات الدستورية ديموقراطيا والبرلمانية سياسيا في ظل حكم الملك.

جون لوك قال: يجب على البشر والأفراد حصرا الخروج على السلطات الحاكمة أن لم تحقق تطلعات شعبها وتحقيق دولة الحريات، وكانت هذه مأثرة أخذها أبراهام لينكولن في تأسيس دستور الولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث.

بينما جان جاك روسو قال: إن زيادة الاحتراب سيؤدي إلى التفاني، وهذا التفاني على الناس أن تعقله بالعقل، الشيء الذي نؤمن به بالفلسفة وفي الحياة، والاحتكام للعقل هو التنازل الطوعي للآخرين، (الكل يتنازل رضائيا لبعض والاحتكام للارادة العامة) ما يؤسس لعقد اجتماعي تشاركي اسمه مفهوم الدولة والمواطنة لا مفهوم السلطة الاستبدادية.

هذه اللحظات الثلاث في التاريخ شكلت مبدأ الهوية الذي يجبّ ما قبله من هويات نسميها هويات ما قبل الدولة تمارس فعل السلطة وحسب، وهذا مختلف عن فعل الدولة والتعاقد الاجتماعي واساسه المواطنة . لماذا يجبّه؟ لأنه ينتقل من فكرة التساوي على مستوى مكون درزي أو مسيحي أو كردي أو غيره متماثل في الوظيفة الوطنية، إلى فكرة الاختلاف وإمكانية أن تتعايش هذه المكونات المختلفة على أرض جغرافية واحدة، وأن تحتكم إلى قانون اسمه القانون المدني أو القانون العصري أو ما نسميه دولة الحق والقانون أو الدولة العصرية دولة المواطنة بوصفها ممارسة الوطنية بالارادة الحرة.

في تاريخنا المعاصر أقمنا ثورة عام 1925 التي لم تكن فقط للدفاع عن أدهم خنجر إلا شعوريا ، وإنما هي التقاء كتلة برجوازية وطنية إسلامية دمشقية حاملة قضيتين: قضية النزعة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، والانتماء إسلاميا بلا خجل، مع فلاح بسيط نسميهم “مرقعي العبي” اسمه سلطان الأطرش، تحت شعار الدين لله والوطن للجميع، وهذا يعني كل على دينه والوطن للجميع بمختلف أديانهم وطوائفهم، وكانت هذه اللحظة لحظة تاريخية سورية كبرى وحالة وطنية تشبه علمانية الغرب بفكرة المواطنة وربما تتفوق عليها.

لكن مجريات الحدث والنفس الأمارة بالسوء قوضت هذه اللحظة المحورية في تاريخنا أمام محاولات الاستئثار بالسلطة، سواء كان هذا الاستئثار قوميا بعثيا أو ناصريا أو أمميا ماركسيا أو إسلاميا، ليقع جميع شرائح المجتمع المدني من مثقفين وسياسيين وعلمانيين فريسة انهيار عامل منظومة الدولة أمام فعل السلطة الوحيد، فهل نحن بنينا عقدا اجتماعيا أم بنينا نموذجا وطنيا استئثاريا يقوم على الغلبة؟ وهل سنبقى نحتمي بهذا النموذج الاستئثاري على أنه راسخ وأبدي؟

أظن حسب آينشتاين أن إعادة نفس الأجوبة على ذات التساؤلات سيعيد نفس الكوارث.

((في الجامعة أدرس جيل الشباب الحالي بالقول أن جيلنا، جيل السبعينات وما قبل وبعد بقليل، وسواء كنا نريد خيرا أو شرا “مناح أو لا” قد أورثناكم بحر من الدم، فاخرجوا عن الاستقطاب السياسي بين معارضة وموالاة ومابين مسلم وعلماني وابحثوا عن مستقبلكم بعيدا عن هذه الاستقطابات، فإذا كانت الهوية الوطنية تكمن في جذر العقل الذي نحتكم إليه فلسفيا، فلا يمكن أن يحملها مستقبلا إلا جيل الشباب)).

فبما أن حضراتكم موجودون اليوم من جميع الأطياف، فنحن مدعوون أن نتساءل: هل يمكن أن يكون الشباب وهويتهم الوطنية فريسة لتقرير أمني كيدي يوهن هوية الأمة؟ أو لفصيل مسلح يتاجر بالمخدرات ويحمل بطاقة أمنية؟ أو لمن يدعي حماية الأرض والعرض والكرامة أو لمن يدعي محاربة الإرهاب أو مناهضة المؤامرة الكونية؟ أو لمن يدعي أنه من صقور المعارضة ولا يقبل الحوار مع الطرف الآخر…

بتنا فريسة سهلة أمام شرذميات تعود بنا إلى بداية التاريخ ، وأنا أرى في مجتمع مثل مجتمع السويداء، كمجتمع مدني، مجتمع تحرري، ثقافي، فيه دين غير تبشيري، فيه أسس مقومات وطنية وجيل مثقف مؤمن بعدالة العقل، ومع تغير الزمن نستطيع أن نكون أساس لبناء هوية وطنية أساسها المواطنة والتعاقد على الهوية الوطنية مع المختلفين ديناً وسياسياً أذا ما كانت السلطة ليست هي الوطنية وحسب.

لقد كنا نعتقد أننا نبني وطن، ولكن اكتشفنا بعد فترة من الزمن أننا أمام وطن نصفه مدمر ونصفه الآخر يسعى للخروج منه، وكل طرف يستقوي على الآخرين إما بقوة عضلاته أو قوة سلاحه وسلطته والحبل على الجرار والكل ينهش بالكل. فما لم نسعى للبحث في العقد الاجتماعي مرة أخرى بطرق مختلفة عن الحاضر فأخشى ما أخشاه أن نعيد ذات الحوار بعد عشر سنوات ونقول ليتنا استمعنا إلى بعضنا.

شارك

Share on facebook