رسم نور نصرالله

موفق مسعود يكتب: الولد المُشمِس

حدث هذا في ظهيرة ملبدة بالغيوم، فلقد سيطرت على المدينة منذ أسابيع رياح خفيفة لكنها جارحة كنصل شفرة من الجليد.
وقفت مع الواقفين على الرصيف منتظراً مرور /سرفيس/ وسط المدينة، وأمعنتُ في طيّ جسدي ما أمكن داخل ثيابي كي أتحمل هذا الصقيع الناشف والذي يغطي المدينة كلحافٍ حليبيٍ سادر بلا حراك على جثةٍ هائلة بلا أحلام.
تململت مقلتاي، كانت أجساد الواقفين ثابتة بلا حراك، مما جعلني أظّن لوهلةٍ أنني أقف في متحفٍ للمنحوتات الحجرية المصطفة على منصةٍ من الرخام الأزرق، كان الجميع مسجونين داخل قشرتهم الحجرية وقد أمعنوا مثلي في طي أجسادهم كأجنةٍ داخل معاطفهم، فجأة انتفض جسدي وبدأت المشي بخطواتٍ سريعة على الرصيف، قلت لنفسي فلأعود مشياً على الأقدام رغم طول المسافة إلى بيتي الذي يقبع في أطراف المدينة، سرتُ متحدياً المسافة والبرد محاولاً إقناع نفسي بأن المشي سيمنحني الدفء والحرارة.
فجأة رأيته، كان ينام على الرصيف متلفحاً بقماشٍ قذر، وقد طوى قدمه اليسرى ومدّ اليمنى خارخ الغطاء فظهرت أصابع قدميه سوداء قذرة وقد تحول لونها إلى الأزرق، هالني المنظر واقتربت ببطء من الولد النائم، كان بعض الصبية يتجمعون حوله بملابسهم الصوفية الدافئة، بعضهم كان يرميه بالحصى محاولاً إيقاظه دون أن يتجرأ أحدهم على الإقتراب من جسده، اقتربت هازاً كتفه فتعالت صيحات الأطفال حوله :
ــــ هذا الولد ميت
ــــ ميت وشبعان موت !
أبعدت الأطفال عن الولد، هززته مجدداً : هيه يا ولد لماذا تنام هنا ؟!
حين بدأ الولد يتنفس ويفتح عينيه بصعوبة أدركت كم كان سؤالي غبياً، لقد بدا واضحاً أنه من آلاف الأطفال الذين شردتهم الحرب دون هويةٍ أو مصير يتّصل بالحياة، عاد الأطفال لصيحاتهم المحتجّة وانضم إليهم بعض المارّة الذين لفتهم المشهد :
ـــ إنه ميت !
ـــ ماذا تفعل يا أخ .. هذا الولد ميت ؟!
ـــ ليتصل أحدكم بالشرطة .. !
صُعقت من يقينهم الفاجر هذا، فصرخت بهم : إنه يتنفس يا جماعة ..! ألا ترون ؟!
بدأت بتمسيد صدر الولد بحركة دائرية بعكس إتجاه عقارب الساعة كي أدفع الدم المتحجر في أوردته للسير من جديد بينما تعالت الصيحات المعترضة والساخرة من حركاتي .
ـــ إنه مجنون ..
ـــ يظن أنه يستطيع إعادة الحياة لهذه الجثة !
فتح الولد عينيه بصعوبة وأفلتت من فمه بضع كلمات مهشمة
ــ ماء .. أريد ماء
فليحضر أحدكم قنينة ماء بسرعة .. هيا بسرعة
كان الجميع يضحك ساخراً مني، وقد اتسعت حلبة المتفرجين، ووجد الكثير من المارة في مراقبة مشهد بهذا القدر من المفارقة فرصةً كي يعيشوا لحظات حارة في هذا الطقس البارد، حتى أن بعضهم كان يسلم بحرارة على بعض المتجمهرين حولي، متبادلين عبارات الترحيب والسؤال عن الصحة والأحوال ، توقفت بعض السيارات ، ونزل أصحابها بدافع الفضول، بينما بدأ بعض العسس بسؤال الحاضرين بأصوات آمرة هامسة
ـــ لماذا تتجمهرون هنا ؟
ـــ ما صلة ذلك الرجل بالولد الميت ؟
لم أصدق ما يجري .. فلقد أجلست الولد مُسنداً ظهره نحو الحائط وكان يتنفس بهدوء ، ويبادلني التحديق الخافت مع ظل ابتسامة على شفتيه المتيبستين، همس مجدداً :
ـــ ماء .. أريد ماء
أدركت أنني لن أستطيع فعل أي شيئ لهذا الولد ما لم نخرج سوية من جوقة المتفرجين المجانين التي تحيط بنا .. أنهضته وأبعدت الواقفين بحركة قوية من يدي
ــ ابتعدوا أيها الحمقى ..
تدخل شرطي المرور الذي كان يقف متفرجاً على الناصية ملوحاً بعصاه للسيارات .. اقترب مني صارخاً
ــ دع هذه الجثة يا أخ وإلا سيتم اتهامك بقتله .. ستأتي الشرطة بعد قليل برفقة سيارة الإسعاف لنقله إلى براد الموتى .
ــ ولكنه يقف ويتنفس ويتكلم .. هل أصابكم العمى !
لحظتها أدركت أنه لا بد من الهرب، اقتربت من أذن الولد المتكئ على كتفي وهمست له: هل تستطيع الركض ؟
أومأ برأسه إيماءة خفيفة مبتسماً، ثم وفي غفلةٍ من الجميع بدأنا بالهرولة التي تحولت إلى ركض سريع ، كُنا نلهث راكضين في حارات المدينة المتفرعّة الضيقة هاربين من نفرٍ غير قليل قرّر اللحاق بنا لمتابعة المشهد المشبع بالأكشن في هذا الصباح البارد والميت، في مدينةٍ تشتاق للشمس منذ أسابيع وربما منذ عقود أو قرون.
وصلنا إلى شوارع فارغة بعدما فقد المطاردون أثرنا وخبت رغبتهم بالركض وراء ولد ميت برفقة رجل مجنون !
جلسنا في ركن مظلم بعيداً عن الأعين، وسارعت لشراء قنينة من الماء الدافئ عائداً إليه، بلّلتت شفتيه بالماء، ثم بدأت ملامحه بالإشراق، حدقت في عينيه مبتسماً وشاداً على كتفه
ـ لقد نجحنا .. برافو يا بطل ..
لكن ما أدهشني أن صورة المدينة المنعسكة في حدقتيه كانت مغايرة تماماً لواقع الحال، لقد كانت المدينة تنعكس في حقتيه المشعتين وقد كستها الشمس وضجت أشجار أرصفتها بأصوات العصافير وثرثرات المراهقين والعشاق وباعة البوظة .. !
هززت رأسي دهِشاً ظناً مني أنني أهذي هذياناً بصرياً، فأرى أشياء لا وجود لها، لكن لولد تحدّث هذه المرة بصوت دافئ : إعطني الماء .. الحرارة لا تطاق .
ـــ أي حرارة يا ولد .. الدنيا صقيع يقصّ المسمار ..
ضحك الولد بعفوية صريحة، وقال لي بأن الشمس الحارقة أفقدته الرشد وجعلت فمه يتشقق من العطش ليغفو قرب الحاوية التي كان يجمع البلاستيك منها .. ثم شهق بخوف لأنه نسي الكيس هناك حيث كان نائماً .. وأصرّ أنه سيعود لإسترداد كيسه الذي حشاه منذ الفجر بالبلاستيك وفتات الخبز اليابس .

حدقت مجدداً في عينيه الواسعتين، كانت الشمس تغمر الصور المنعكسة والمقلوبة في حدقتيه.. حتى أنني رأيت نفسي وكان وجهي محمراً تحت شمس ساطعة .. دققت أكثر في ملامحي مستمرئاً لعبة الهذيان هذه .. كان وجهي في حدقتيه بدون تجاعيد وأخاديد .. ثم بدأت بالضحك وانتابتني رغبة هائلة بالرقص مع هذا الولد المشمس في شوارع المدينة!

بدأ خبث الأطفال يعترينا معاً، وبعد أن أفرغ الماء في فمه ، نهضنا معاً وبدأنا نعدو راقصين في شوارع المدينة المشمسة، ثم سمعت صوتاً فجاً ومتضخماً كأن صاحبه يمتلك مضخم صوت في حنجرته كان صوت شرطي مختلطاً بإشارات اللاسلكي: لقد وجدنا جثتين في زقاق مظلم .. نعم سيدي .. ولد في العاشرة برفقة رجل في الخمسين ، الجثتين بلون أزرق ويبدو أنهما ماتا من البرد سيدي.

شارك

Share on facebook