ربيع مرشد يكتب: المسؤولية العظيمة

يقول ميلان كونديرا في رواية (الجهل): “جميع الشعراء الرومانسيين العظِام، كانوا بالإضافة إلى أنهم وطنيون عظِام، هم سكّيرون عِظاماً”.

في كل حالة ثوريّة، وما ينتج عنها من فوضى طبيعية يرسمها هذا الحدث الكبير الخَلّاق، وتعيشها الأمّة بشكلٍ مُنفلت عن ماهية العادي الذي قد يبقى لسنواتٍ طوال، وفي خطٍّ بيانيٍّ مُستقيمٍ يقتله البطء والترهّل وانعدام التفاعل؛ أقول هنا سوف يحمل الشاعر فوق كاهله عبئاً أكبر بما لا يُقاس، من المشاكل الحياتيّة للناس العاديين. وبطبيعة الحال فإن عبئ الشاعر يتضخَّم ويعلو ويسمو مُترفّعاً حتى يسقط سقوط النسور المُنتحِرة، ففي أحد النسخ من فيلم سوبرمان، هناك مقولة على لسان أحدهم –وأعتقد السوبر مان نفسه، لم أعد أذكر- تقول: “مع القوّة العظيمة تأتي المسؤولية العظيمة”، فكان هؤلاء الشعراء، هم أول من استقرؤوا القادم القلِق. فنهضوا وجاهروا ورفضوا؛ ومن ثم قُتِلوا أو نُفيوا، وربما انتحروا.. وعليه، فإن الشعراء خصوصاً، والكُتّاب بشكلٍ عام، كانوا من أكثر الحاملين المثاليين لهموم أوطانهم، ربما بسبب منظورهم الأبعد كرؤية للمستقبل الضبابي وقراءته بحِنكة مُرهقة. ولكن ما هو جليٌّ كان في إحساسهم العميق هذا، ويكمن بعجلة سير التاريخ غير الرَحوم، وقناعتهم بأن الركود التام، والذي لا يتناسب وطبيعة تلك الحياة التي في سيرٍ مُستمر، وحركة دائمة، وإن سيرورتها لا تحتمل أي هدوء وأيّ ثبات.

وفي سياق آخر سوف أخبركم حادثة، ربما تكون صحيحة وربما لا، ففي التاريخ الكثير من الكذب والتجيير، لكنها تحمل في طيّاتها ما للشعراء من رفضٍ قاطع وخاصة في الظُلم: كان تيمور لنك يحتفل باحتلاله لدمشق عام 1400-1401م – 803 هجري، وفي غوطتها أمرَ بنصب الخيام لأجل حفلة شِواء، وفي لحظة من نشوة موجة انتصاره التدميري الكبير، سأل شاعره الخاص من باب المُفخرَة الصلِفة: “أيها الشاعر، إذا عُرض تيمور لنك في السوق السوداء، فِبَكم تشتريه؟”. وطبعاً كان يتوقع قصيدة عصماء تتحدث عن شجاعة وغزوات هذا الزعيم المغولي، لكن الشاعر الذي كان قلبه يكاد ينفجر غضباً وقهراً من جرائم تيمور، لم يستطع إلا أن يقول: “اشتريتكَ بثلاثين درهماً يا سيدي”.
ـ ويحَك، إن حزامي يساوي أكثر من هذا المبلغ. قال تيمور غاضباً.
فردَّ الشاعر بكل هدوء: “أنا دفعتُ ثمن حزامك، أما أنت فلا تساوي شيئاً”.

إنه لمن المؤكد، وبدون أدنى شك، بأن هذا الشاعر كان يعلم بأنه مقتولٌ لا محالة، ولكنه لم يستطع السير في المداهنة أكثر من هذا، فرَسمَ موته بيده.

حين تقرأ المُظفر النوّاب:
هل وطن تحكمه الأفخاذ الملكية
هذا وطن أم مبغى؟
هل أرض هذي الكرة الارضية أم وكر ذئاب؟
ماذا يدعى القصف الأُممي على هانوي؟
ماذا يدعي سمة العصر وتعريص الطرق السلمية؟
ماذا يدعى استمناء الوضع العربي امام مشاريع السِلم
وشرب الانخاب مع السافل روجرز؟
ماذا يدعى أن تتقنّع بالدِين وجوه التجار الأمويين؟
ماذا يدعى الدولاب الدموي ببغداد؟

هنا يعيش الشاعر وجع أمّة كاملة، وسوف نعرف ما هو الألم الذي ألمَّ بالشاعر قبل سواه، وقبل أن تأكل الناس وتتغوّط وتنام، ثم تستيقظ متأخرة لترفض كل شيء؛ لكن بعد ماذا؟، ما فات فات.

عندما دخل الجيش الإسرائيلي بيروت، كان الشاعر خليل حاوي فيها، ولم يستطع احتمال الاجتياح الإسرائيلي لمدينته الغالية، لوطنه العزيز؛ فانتحر ببندقية صيد.

نعم أيها السادة، هذا هو شأن الشاعر: السبّاق في تلك الرؤية ورفضها، ومن ثم الموت عندها.

إن أيّ ثورة أو مقاومة مصيرها السقوط لا محالة عندما تنتحر الشعراء، وتموت القصيدة في الدروج الخشبية.

شارك

Share on facebook