ثمة أصوات تضيع مع الهواء، لكنها لا تموت ولا تقع في الصمت، بل تطير حرةً وخفيفةً عبر الأثير الرحب المفتوح، أصوات جارحة، وأخرى هشة كشهقة،.
ـــ لا تروح .
كانت جملة أمه الأخيرة تطوف في أرجاء عقلهِ ، فتارةً يسمعها همساً .. وتارة صراخاً .. ، لكنه الآن في طريقه إلى الأرض الجديدة، وكما هي عادته، فلقد حمل في يده قلماً ودفتراً صغيراً لتدوين اللحظات المشعة التي تنتابه بين الحين والآخر …
ـــ ماذا تفعل يا جابر .. ؟ أنت مجنون رسمي !!
ــ لقد سحرتني … وأكتب عنها .. !
قال مشيراً بعينيه نحو مقدمة البلم حيث تتشبث بأمها
ـــ ولك مجنون .. نحن في عرض البحر على هذا البلم الخرا .. وأنت مشغول بالشعر !
كان عصام يرتجف ويمسك بحافة البلم مرتعباً من إهتزازات الأمواج التي تتصاعد، أما سلمى التي سلبت لُبّ جابر، فقد كانت تجلس بالقرب من أمها ممسكة بها .. بدت أمها بوجه فينيقي جامدٍ بلا حراك، ونظرة بعيدة إلى الفراغ، وكأنها تستعيد حياتها الماضية برمتها لتحشرها أمام سؤال بكلمةٍ واحدة .. لماذا ؟
خطّت أنامله المرتعشة على الورق المبلل من رذاذ الموج المرتطم بحافة البلم :
/ قبيل هذا الفجر أراها .. نصف غرتها ينسدل على نصف وجهها، كأنما الظلمة تتكشّف عن الضوء وتغطي نصف نافذةٍ مفتوحةٍ على حدائق مدهشة بلا أسوار ..
حاجباها .. خطين للأفق في صفاء صيفٍ جبليٍ آن الفجر .
أنفها .. كصخرةٍ شاحبةٍ تستقر على رخامٍ قديم عمره عشرة آلاف عام .
عيناها الخائفتان متوقدتان بحلمٍ يومض كجمرةٍ في أعماق كهف .
جفناها كستارتين من كتّانٍ ممزقٍ وقد أفلتت من أطرافها خيطان سوداء سوداء .. /
ــ جابر تمسك ..!
فاجآه صراخ عصام بجانبه بعد أن علا البلم موجةً كبيرة ثم هبط بشدة، تمسّكت سلمى بأمها. أمسك جابر أوراقه وقلمه بقوة .. ونظر نحوها .. كانت نظراتها متوسلة، داهمه صوت أمه قوياً هذه المرة :
ــ لا تروح يا جابر … لا تروح
كان ذلك قبل أسابيع، حيث هطل الليل مبكراً في شهر أكتوبر، كان في زيارة سريعة لوداع أمه بعد أن قرر الهجرة دون عودة مع صديقه عصام، سيتم ذلك عبر مكاتب السفر والتهريب التي أصبحت منتشرة بكثافة كوكالات السفر وعملاء القنصليات ومافيات الفيزا والإتجار بالبشر وأحوالهم .. لكنه هذه المرة بضمانة عصام وجد عرضاً مقبولاً ولا يكلف كثيراً لكنه بالغ الخطورة ..
قالت تلك الليلة .. قبيل الفجر حيث سيرحل مع شروق الشمس .
ــ لا تروح يا جابر .. لا تروح ..
ــ لازم روح يا أمي .. بدي عيش حياتي ..
بدي اكتب وحب وأدرس واشتغل وإمشي بلا خوف ..
وها هو يكتب مرة أخرى .. على ظهر البلم .. في بداية العاصفة .. / سنحيا يا بنت … سنحيا وسأحبك /
استطاع أن يميز ابتسامتها الخائفة وهي تنظر نحوه وكأنها تقول / سنحيا .. وسأحبك / .
قبيل الفجر بقليل، هدرت الأمواج ، كان بوده لو يكتب ، لكنه أصبح في لج الماء مع جميع الغرقى المؤجلين في هذه الحكاية ..
بعد شروق الشمس تسللت خيوط من الضوء نحو أعماق البحر .. كان جابر يقود سلمى من يدها سابحين بين أعشاب البحر كهرين بحريين .. هزت جسدها الخلاب بين تيارات البحر الباردة وإنسلت أمامه نحو صدفةٍ عملاقة .. وقالت له مطمئنةً ..
ــ ألم أقل لك .. سنحيا .. وسأحبك .
