رسم يارا الدعبل

موفق مسعود يكتب: أسماك ملونة

تعودنا الجلوس متسمرين أمام الشاشة في فترة وصول التيار الكهربائي ، أنا وزوجتي وطفلتي الصغيرة ، فالخروج من المنزل في هذه الظروف مغامرة بلا ثمن ، كناّ ننكمش على بعضنا عند سماع دوي المدافع والرشاشات ومختلف صنوف الأسلحة، وبينما كنا نتفرج بصمت على ناشيونال جيوغراقيك، حيث تبث القناة فيلماً ساحراً عن الطبيعة، قالت وحيدتي ذات السنوات الخمس وهي تشير نحو الشاشة :
ــ الحياة هناك أجمل من الحياة هنا
ــ نعم / أجيبها باقتضاب /
ــ أحب أن أكون هناك داخل الشاشة .. الحياة بين الأشجار هناك أفضل من هنا
ــ ربما .. ولكن ما يعرض على الشاشة هي مجرد صور يا بابا
ــ حتى لو كانت كذلك .. أريد أن ندخل إلى هناك
ــ كيف سندخل في الصور ..؟ هذا لا يعقل ..!
ــ لنأخذ خيمة صغيرة وبعض المعدات ولنذهب ونخيّم هناك ..هكذا !
ــ لكننا سنكون في الخيال وليس في الواقع !
ــ لا يهم كيف سنكون .. لنذهب وحسب .
كانت كلماتها حاسمة، لم أجد بداً من النهوض إلى غرفتها الصغيرة لأجل مشاركتها في تحضير عدة الرحلة.
جلست على ركبتيها وفتحت محفظتها بثقة الرحالة الشجعان، أفرغت المحفظة من الأقلام والدفاتر وباشرنا باختيار الأدوات التي سنحتاجها في رحلتنا الغامضة والمشوقة تلك.
كنت متسربلاً فيما نحن ماضون إليه وكلما حاصرتني أسئلةً تتعلق بالورطة التي أوقعت نفسي فيها ، تبصّ في روحي رغبة عميقة بمشاركة طفلتي هذه المغامرة العجيبة، وبدأت أتحول إلى شريك حقيقي في فخ خيالها العذب .
حين ولجنا في الشاشة مع عدتنا ، لوحت لنا زوجتي مودعةً ومبتسمة، لقد وقعنا في منطقة جبلية مليئة بالأشجار وثمة نهر يتدفق منهمراً من جرف صخري .. كانت الطبيعة فاتنة، وأصوات الطيور في الغابة تغسل أرواحنا فنقفز متجولين في أرجاء الغابة لكي نختار مكان مناسب للتخييم.. لم أرى طفلتي بهذه السعادة من قبل .
أخيراً وجدنا منبسطاً أخضر بجانب بحيرة شديدة النقاء وتسبح في مياهها العذبة مئات الأسماك الملونة، صرخت طفلتي بعنفوان القائد : هنا ..
قررنا نصب الخيمة في هذا المكان الساحر ، لكن فجأة انقطع بث القناة لهذا البرنامج، فأظلمت الدنيا أمام أعيننا ، وبدأ البث المباشر لأحداث الحرب .. وتحولت الغابة إلى مدينة محطمة ، وعادت أصوات الرصاص والقنابل تنهال حولنا بغزارة … سارعنا إلى زاوية الشارع واختبأنا في بيت مهدم، كنت أحضن طفلتي برعب وأفكر هل يمكن أن يكون هذا حقيقياً ! ، حاولت العودة بخيالي إلى بيتنا الصغير الفقير الدافئ ، لكن هذا بدا مستحيلاً ، فالرصاص ينهمر حولنا كالمطر، وللحظة بدأت أشك في قدراتي العقلية، هل يعقل أن يكون ما يحدث هو الحقيقة، وتلك الجلسة مع زوجتي وطفلتي في البيت هي مجرد خيال ..!
تحسست وجه طفلتي بخوف، كانت أنفاسها حارةً كالجحيم ، ضممتها وانتظرنا على هذه الحال حتى وقوع الليل .

كنّا قد غفونا من الإنهاك ، وحين استيقظنا أول الفجر، كانت الشوارع محطمة، وإقترب منّا رتل طويل من سكان المدينة اللذين يهجّون من الحرب، دون تفكير .. حملت الخيمة على ظهري ، وأمسكت طفلتي وسرنا مع الهاربين .. ، في المخيّم الذي أعدته لنا منظمات الأمم المتحدة ، قال لي الموظف بعد أن خضعت لفحصٍ طبي، لقد تم انقاذي وحيداً من بين الركام و أنني أهذي على الدوام وأتخيل أنني أجلس في بيتنا الصغير مع زوجتي وطفلتي نتابع برنامجاً وثائقياً عن الغابات والأنهار والأسماك الملونة .

شارك

Share on facebook