لا تمرُّ لحظة زمنية لا يُلتهم فيها كائن حيٌّ من طرفِ كائنٍ حيّ آخر، يقتات على الأول الضحية في صراعه الفطري مع البقاء، لكنّا نحن معشر البشر وقد تسلقنا قمة الهرم القيمي والوجودي فقد طالتْ يدنا كل شيء وصار الانسان الذي كان يقتل ليقتات، يقتل ليلبس، ويقتل ليتزين، ويقتل ليهاجم، ويقتل ليدافع عن نفسه، ويقتل ليتعلم، ويقتل من أجل السلطة، ويقتل ليلهو، يقتل من أجل القتل فقط. إنه فعلاً لكائن مرعب، وهذا ما وصفه جان بول سارتر ” بالعنف الانساني بما هو ضد الانسان “.
بعد أن تطوّر العنف في التاريخ المعاصر واتخذ صفة الارهاب اصبح بحد ذاته ظاهرة اشكالية اذ بقدر ما يلعب هذا العنف دوراً مدمراً للإنسان بقدر ما يلعب دوراً في صنع التاريخ البشري، وبقدر ما يشكل تهديداً حقيقياً لمصير الانسان بقدر ما يعتبر أداة اساسية لتثبيت السلطة السياسية والتي يمكن في ذات الوقت أن ينقلب ضدها.
لم يعد ابناء مدينة السويداء أو القاطنين فيها بحاجة لتناول الأخبار من صفحات الانترنت أو الصفحات الاخبارية في الفيس بوك والتي كانت تتوثب لنقل خبر اختطافٍ أو سرقة ممتلكاتٍ أو رشقات رصاص حيّ في أحياء متفرقة وجرائم قتل، ذلك أن مثل هذه الأخبار فقدت بريقها الأسود على تكرارها ولم تعد تحمل من الدهشة ما كانت تحمله، وقد انقسم المشهد إلى شقّين متناقضين: مسلحٌ يزداد تنظيماً وفجوراً وتسلطاً ورعونة يقابله كل من لم يتناولوا السلاح أو يدعون لحمله وهذا المدني يزداد شتاتاً في تأويلاته ومحاولات اللقاء والحوار والبحث في اشكالية الطرف الاول الذي يهدد كيانه على كافة الأطر والصعد ويزيده اغتراباً وحيادية عن المشهد الذي نزل طازجاً إلى شوارع المدينة وترك آثار عدوانه على جدران المشفى الوطني بتاريخ 22 تشرين الثاني، ومن ثم ليعاود الحضور مساء اليوم التالي بكرنفالٍ مرعبٍ من الرصاص والقنابل استمر لصبيحة اليوم الذي يليه وقد ملأ المدينة خوفا وفزعاً. وإن أقول أن ما حدث ليس بالغريب والمستهجن، فهل أكون كغيري ممن اعتاد أو عوّد نفسه على هذا المشهد العنيف الذي يقدمه كومبارس رديء من حثالة وزعران المحافظة ومخلفات الهيئات التي لبست الشرعية الحكومية في تأسيسها؟ في غياب شبه تام أو حضور شكلي لأجهزة الدولة ومؤسساتها المعنية.
يمكن أن نطلق صفة العنف على كل ما يُفرض على الكائن بحيث يكون متناقضاً مع طبيعتهِ، وعلى كل ما يمارس ضده بقوة حادة (كالريح العنيفة، والانفجار العنيف)، كما يمكن أن تستعمل كلمة عنيف في التعبير عن المشاعر والاحاسيس وأن يستعمل العنف عليها، بالأفعال أو الكلام والذي يعتبر التعنيف من خلاله كأحد أشكال العنف التي لا تقل وطأة عن العنف الجسدي. ويمكن أن يكون هذا العنف نفسياً أو جنسياً. أي كل ما يندرج تحت تعريف الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو ” خاصية ظاهرة أو فعل عنيف. يتعلق الأمر باستخدام غير مشروع أو على الأقل غير قانوني، للقوة. بالنسبة إلينا نحن الذين نعيش تحت نير قوانين مدنية. فنحن مجبرون على وضع تعاقد، اذ بواسطة القانون يمكننا أن نكون ضدّ العنف “.
ومن أهم الأسباب التي تمسُّ مثالنا (الذي ألفناه مرغمين أو متجاهلين) هي التربية اذ حتى طريقة التعبير عن العنف تكون محكومة بالقيم والمعتقدات، واذا كنا نحمّل الحرب والظروف السياسية التي تمر بها البلاد وزر هذه النتائج إلا أنها لم تكن سوى فرصة لكل ما كان متأصلاً ومكبوتاً، فسنوات البطالة التي سبقت الحرب صنعت نفوساً واهية وجدت في الحرب فرصة لكل من عانى مشاعر النقص في امكاناته المادية والمعنوية، ولكل من كان يعاني اضطراباً أخلاقياً ومعرفياً لم يسهم المجتمع ولا مؤسسات الاعلام والمؤسسات التربوية والتعليمية في تقويمه بل على العكس عمل أكثر وأكثر على تعزيز خطاب الكراهية، ولعل السبب الصارخ هو انعدام قنوات الحوار مع الآخر، هذا الحوار الذي أعدمته المؤسسات الأمنية، ونمّطته المدارس والجامعات وثقافاتنا الدينية في قوالب جاهزة لا تقبل الشكّ أو النقاش، ولا يمكن تبرئة القوى المتصارعة من دول وأحزاب على ارضنا (وهي كثيرة) من ايقاد جذوة هذا العنف باتجاه مصالحها السياسية وفرض ايديولوجياتها وهيمنتها أينما استطاعت من دون رادع أخلاقي أو الأخذ بمصالح الناس وأرواحها في الحسبان كأي جشع سياسي لا مبدأ له ولا أخلاق.
واذا كان لا يمكن الحدّ من العنف سوى بالتربية ولا يمكن تقليص حضوره كظاهرة إلا بتجذير ما أسماه ادغار موران ” بالوعي الكوكبي” إلا أننا على هذه المساحة الصغيرة اخترنا الحياد فهل عجز المعنيون من عقلاء ورجال دين ومثقفين وناشطين مدنيين (في ظل غياب مؤسسات الدولة الفاعلة) عن محاولة، وأقول محاولة على الأقل للحوار ووضع آليات من شأنها الوقوف والحد بالحد الأدنى من ظاهرة التسلح؟
أم أن اختلاف الرؤى والايديولوجيات والمرجعيات السياسية جعلت منهم شتاتاً لا حيلة له؟ في وجه ثلة من المرتزقة لن تميز بينهم (ولي الحق أن استغرب واستهجن اختلاف المرجعيات السياسية لبعض رجالات الدين وقد تعددت جنسيات آلهتهم)
وهل الجميع (وكلي قَلق هنا) قد اعتادوا وتآلفوا مع الحالة المتسيبة والمشاهد القذرة والممارسات الدنيئة التي لا تتفق مع وعينا وارثنا الاخلاقي بشيء وهي تستعرض بوقاحة حضورها في شوارع المدينة؟ وهو تساؤل مشروع بعد انقضاء اسبوعان على تلك الليلة التي شهدتها المدينة من وابل رصاص وانفجارات عنيفة هزت ليلها وصباحها من دون أي ردة فعل للأهالي والمجتمع المحلي وتجمعات المثقفين والمعنيين بالشأن المدني أو الهيئات الدينية أو أو الخ والتي كان من المفترض أن تلتقي في غضون أيامٍ على أثر حدث جلل يمس أمنهم جميعاً .. وكأنها تلك المعارك قد أدت غرضها في الترهيب واعلان سلطة وهيمنة من نوعٍ ما على نفوس الناس (الغريب في تلك المعارك الطاحنة عدم وقوع قتلى أو حتى جريح واحد على اختلاف الاطراف المتشابكة وكأن غرضها فعلاً ربما ترحيباً بالمحافظ الجديد وربما زرع الرهبة والخوف في نفوس الناس في تمثيلية مسلحة مرعبة).
(ما حدا ماين عليهن) الكلمة التي يبرر بها المعنيون انفلات زمام الامور من أصابعهم وهي حقيقية إلى حد ما، لكن أليس من الحكمة على الأقل فتح قنوات للحوار والتشاور لوضع آليات تضمن على أقل تقدير ردع من يريد الانضمام إليهم من شبابنا أو استرجاع من بقي منه رمق أخلاقي من براثنهم؟
عندما وضعت سوريا الدولة قوانينها لضمان سير وتنظيم المجتمع بعد حالة العنف المشروع لاستقلالها، شرّعت العنف للحفاظ على القانون بالقوة، وهذا ما عملت على تعزيزه الحكومات المتلاحقة باضطراد لترسيخ دعائمها السياسية فكانت مشروعاً لزرع خطابٍ طويلٍ من الكراهية والعنف تحت جلد مؤسساتها وايديولوجياتها وحزبها، وكل ما احتاجته هذه البذور لم يكن إلا تظافر بعض الظروف المناسبة لتنمو وتتعملق ناسفةً كل المعايير الأخلاقية والمعرفية والاجتماعية والبذور الروحية للأديان التي انقلبت على حالها تنبش ابسط المنافذ التشريعية للسفك والأنانية والبشاعة والارهاب ومثلها الأحزاب التي تغنت بالقيم والاخلاق والإنسان. وكل من نال منه خطاب الكراهية في حالة تدني المستوى الفكري والثقافي وتقاطع المجريات مع المصالح الشخصية او الانقياد ليكون أداة في أصابع المجرمين الآخرين.