في قريتي حارة عتيقة، في الحارة منازل تفوح منها رائحة القهوة المُرّة؛ ومنها دار جدّي. في تلك الدور مضافات لا تزال ممتلئة بأصواتهم الدافئة. لكن ليس هذا فقط: المضافة الأولى بابها يصلّي القِبلة، مضافة جدي بابها يعانق الشمس، مضافة جاره بوابتها تُخاطب بوصلة الشمال. تساءلت مع نفسي: “هل هو البغض؟، لقد بنو مضافاتهم باتجاهات مختلفة، أهو الحسد؟”. خاطبتني روح جدّي هامسة: “كم أنت سخيف يا فتى”.
– لكن يا أبتي، ما كان هدفكم؟. في ذلك الوقت كنا ننادي الجد بأبي: “بيّي يحيى”.
– عندما بنينا دُوْرنا اختلفت جهات أبوابنا بهدف الحِشْمة. رد “بيّي يحيى بصوته العميق الهادئ”.
– بهدف الحِشْمة؟!، لكن كان يكفي حجب النظر يا “بيّي”.
– العين سرّاقة يا بُني، ونساءهم أخواتنا. كانت دجاجتنا تبيض في بيوت بعضنا البعض، لم يحدث أن طالبت امرأة من حصّتها ولو ببيضة. كانت كرومنا مفتوحة للجميع، للقريب والغريب، للبغيض والحبيب. عندما كانت فِرشنا لا تكفينا، ويحدث أن يأتينا ضيوف من الخارج، كان الأولاد -أي آبائكم- يتسارعون بأخذ مجالس الصوف الثقيلة، لإكمال ما ينقص المضافة الأخرى. أحياناً قد يصل الشجار إلى مرحلة الدماء، وعندما يشعر أحد الجاران المتشاجران بجوع أبناء الآخر، يقوم بطرق الباب ووضع الزوّادة أمامه ثم يرحل مسرعاً، ليفهم ذاك الآخر الأمر من رائحة الشهامة التي تفوح في الانحاء. كان موسم الحصاد يلمّ الجميع، احتفالاً بالتعب، احتفاء بالحب، شغف بحنين المناجل، بكؤوس الشاي موحّدة الحجم واللون، تختلط فلا يُعرف الكأس الذي كُسر يخصّ دار من. كان الزعل لا يبيت، والحقد لا ينام، والضغينة لا تكاد ترى الفجر حتى تذوب. يموت أحدهم فتحزن القرية، من المعيب أن يُشغّل تلفاز، أو راديو، كان الفقد يوحّد القلوب. ننام جائعين بفرح، نستيقظ باكراً لنلحق الشمس ونلقي عليها الصباح، يشبعنا نورها. نتناقل قصص الأجداد والجدّات، ننتظر فراغهم من الحقول والتفرّغ لنا، حكاياتهم تصقل أخلاقنا الرفيعة، حتى أشرار حكاياتهم كانت تملتك شيئاً من النبل. نتغنّى بالشجاعة دون مبالغة، نحتفل بالغزل بغير وقاحة، نمازح بعضنا البعض بكثير من الاحترام. ببساطة كانت الأخلاق مرجعيتنا الموروثة.
أضاف بيّي يحيى: “وأنتم… هل ما زلتم تمشون ذات الدرب؟”.
سكتُّ مغبوناً مكسوراً مُحرَجاً، ومقهور… لست أدري كيف أرد.