رسم نور نصرالله

موفق مسعود يكتب: عشاق الدرجة الخامسة

كان يحلم بها كما يحلم بالحرية.

وكان يمكن لها أن تنفذ من العقاب ليلتها، وكان هو في قرارة نفسه يعي ذلك، ويفكر: لو أنها تنتبه لوقع قدميه على الدرجات البيتونية الضيقة تلك التي تؤدي إلى مدخل بيتها على السطح!
لو تسمع أنفاسه المحتدمة والتي تتزاحم في منخريه، غاضبة ومزمجرة من هول الورطة التي وجد نفسه واقعاً فيها، لا بد له في هذه اللحظات أن يتحول إلى قاتل!!
اللعنة ، إنه تجلٍ مريع للقسوة .
لكنها كانت مشغولة بالروائح المدوخة في ضباب لهاثها الخفيف، حيث كان سليم الزبال يعصرها بين ذراعيه ويقبلها بضراوة جامحة، كانت تذوي من الخفة والحرارة والخدر، وكأن الزمن بالنسبة لها يسير متثاقلاً سكراناً ببطئ عجيب، إنها تشعر بعمق، وهي تفكر طويلاً وتضحك وتبكي في رحاب لحظة واحدة .
وفكّر وهو يصعد الدرج ببطء، وكأنه يتسلق جبلاً، في الفرق الذي يمكن أن يحدثه الإسلوب المتبع في قتلها، وكأنه أقر في أعماقه، أن مسألة موتها محسومة بشكل نهائي في داخله، وفي السماء هناك حيث الملائكة ينتظرون روحها كي يتفرغوا لمحاكمة طويلة ومضنية، خاصة أنه وعبر سنوات، كان حريصاً على التأمل ومخاطبة الكائنات العليا والشكوى لها، ويتخيل على الدوام، ملاك طيب يشبه كاتب المحكمة، يسجل آلامه بتفاصيلها، كما يسجل فضائحها وخياناتها، ويتذكر مرة، أنه وفي خضم هذه التأملات، وفي جلسة طويلة مع الملاك كاتب المحكمة، انتبه إلى بريق عينيه الناعستين، كان يتلقف بشغف الكلمات التي تخرج من فمه، خاصة عندما يصف جسدها، أو أنفاسها المحتدمة حين تباغت عشاقها في لحظات اللقاء الأولى، وكان عليه أن يمرض من وطأة ما حاول تغيير صورة الملاك كاتب المحكمة في مخيلته، فكلما استحضر وجهاً ما من أقاصي ذكرياته البعيدة، اكتشف أن ملامح الوجه تتغير كلياً لتصبح ملامح ملاكه الجديد، حيث ملامح الشغف نفسها، وتلك النظرة الراجية له في الإستمرار في روي الأحداث عنها، يا للكارثة ..!! إنه أمام عاشق جديد من العالم الآخر هذه المرة .. ؟!
توقف عند الدرجة الخامسة، لقد كان ما تخيله مريعاً ..، لو أقدم على قتلها الآن، سيعفو عنه القاضي بعد ستة شهور، ولكن المسألة، أنه تخيل كيف سيعيش ما تبقى من أيامه ؟! كيف سينام ، ستحتل لياليه بوجهها المدمى ، وسيكون عاجزاً عن النوم والطعام والأكل ربما .. !
لو أنها مثلاً تموت فجأة في حادث سيارة، هي تسير بسرعة في العادة، وعندما تكون ذاهبة إلى موعد مع شاب جديد، غالباً ما تتسرع في عبور الشوارع، سيكون من الرائع لو أن رجلاً مخموراً، صعد في سيارته من أمام الحانة، وهو مصاب بحالة من اليأس والقنوط والنقمة على العالم، فلقد كان يشرب وحيداً حتى الثمالة، بعد أن خسر كل شيئ، زوجته التي هجرته وأولاده الثلاثة ، وصديقه الذي سرق ماله، إنه رجل خمسيني يعرف الحياة، وقد خبرها بشكل عجيب، لكن الخبرة غالباً ما تخدع المرء، لأن الثقة بالذات هي أكبر الأوهام التي تدفع الإنسان إلى تصديق الخرافة التي تقول أن الحب يحتاج إلى القوة.
المهم، لو أن هذا الرجل الخمسيني يصدمها بسيارته ويسحقها تحت العجلات فتغادر الحياة إلى غير رجعة .. حينها سيقول لنفسه أولاً، ثم للناس، أنه آسف على رحيلها ، وربما يكون صادقاً مرتاح الضمير ، وسيستطيع النوم والأكل وحتى مواعدة الفتيات .
الآن في هذه اللحظة تنهد الرجل المخمور وهو يقود سيارته شارداً بخيالاته عن ذلك الرجل الذي تخيلهُ زوجها والذي يصعد الدرج لقتلها وهو يستمع إلى لهاثها الفاجر تحت جسد زبال غائم الملامح ..
وسينتبه محدقاً على جانبي الرصيف خوفاً من ظهورها المفاجئ وهي تقطع الشارع أمامه فجأة، كان وجهه مشدوداً وقد تصبب منه عرق بارد وكأنه متيقن أنه سيدهسها هذا المساء.. أوقف السيارة بجانب الرصيف ، وحاول عصر مخيلته التي عجت بالعشاق المقتولين لكي يتبين ملامحها .. فلم يفلح بذلك، إنه لا يعرفها بعد .. إنه يحلم بها وبعشاقها ويسّن السكاكين لذبحهم ، ويرقص قلبه الكهل متأكداً من أنها ستأتي .. لا بد أنها ستأتي .
كان الرجل الواقف على الدرجة الخامسة يشحذ السكاكين منتظراً ..
ويحبها أيضاً بصمت .

شارك

Share on facebook