الطفل السوري لديه مشكلة مُستعصية مع الخَيَال، هل تعرفون لماذا؟، نعم، إن خَيَال الطفل السوري رائعٌ بمداه، متميّزٌ بصداه، ومُتفرّدٌ باتّساعه ورحابته. أما فيما يخصّ الواقع، فقد سقط هذا الخيَال من قاموس رغباته الملموسة؛ لأنه: “إلّي مش بإيدك بكيدك”، كما كان يقول الآباء الذين كُتب عليهم –وعلينا، وعلى مَن بعدنا- الجوع، في وطنٍ مَفْجوع!، وكأن هذه البلاد منذورةٌ للفقرِ والفكرِ والقهر… والرهبَة.
وفي الوقت التي كانت فيه طفولة الآخرين، من غير السوريين، وبخيالها المُتّسِع للألعاب والمكعّبات، والألوان الفاخرة والكرّاسات، والرحلات والنزهات، والمكافآت المُجزية لأي نجاح مهما كان بسيطاً… كان الطفل السوري، وبخيَاله الذي بدأ يضيق سنة فسنة، وشهراً بعد شهر، يتجمّد من صقيع القلب والمَعِدَة.
سأعود إلى تلك الشطائر الطائرة: كان خَيَال الأطفال السوريين، ويوماً ما، يتّسع لشطيرة جُبنة، صفراء كانت أم بيضاء، تتغلغل في مُخيّلتهم الواسعة من أبوابها المُشرَّعة لِلذّة، ذلك الشيء الذي يسيح شهوة تحت نار هادئة، في سندويشةٍ مُطعّمةٍ بحنين الأمّهات. لكن بعد فترة تقلّصت المُخيّلة لتحتل اللبنة صرح الجُبنة، وتأخذ مكانها وسيادتها، فصار خَيَال الطفل السوري يتقبّل ذلك المُنتَج الأبيض الطري في خيَاله، كداعمٍ صباحيٍّ يشي به نهاره المُرهَق. لكن عندما ترفّعت الأبقار عن اهتمامات الصِغار، وبحليبها الذي صار حكراً على أبناء المسؤولين، وأخذت دوراً (أرستقراطياً) كما في دعايات زُبدة: “لوربيك” الدانماركية، وصارت مُنتجاتها بعيدة عن متناول خَيَال الأطفال، وطبعاً الفقراء منهم؛ فكان لا بدّ لهذا الخيَال أن يوازن ما بين الطموح والمسموح. يتنازل ويتقلّص إلى بضع زيتونات خضراء كانت أو سوداء، لا مُشكلة، ومُغطّسة بالماء لا بالزيت، وأيضاً قبِلها الخَيَال المُتقلِّص مع مرور الأيام مُرغَماً، أو لنقل بعد حالة الملل الطبيعية التي تصيب الخَيَال من تكرار طعام واحد. فصار لا بدّ من أن يجد بديلاً آخر، ألا وهو “الزعتر”، والزعتر فقط، لكن في أكثر الأوقات يحلّ الماء مكان الزيت… يا له من أمرٍ مؤلم أن يأخذ الماء دور الزيت؛ حتى ولو في الخَيَال…. خيَال الأطفال. وفي بعض الأحيان يكون الزعتر الأخضر بدون سمسم، لأن السُمسُم أيضاً، ورغم لفظ الكلمة الأقرب لخيَال الطفولة، فقد كان من الأشياء العصيّة على المطابخ، كونه الأب الشرعي لتوأمي الطَحينة المُتعجرِفة، والحلاوة المُتكبِّرة.