مداخلة الأستاذ أسامة هنيدي

صباح الخير جميعا، يعطيكم الألف عافية.. يسرني رؤية كل هذه الوجوه من المثقفين والناشطين والأكاديميين والقادة المجتمعيين.

سأنحي التاريخ جانبا لأضيف قليلا عن ما حصل خلال السنوات العشر الماضية من عطب شاب الهوية الوطنية السورية، وربما وجدت من المناسب قبل أن أتحدث عن الهوية الوطنية السورية أن أتحدث عن الهوية ولو بدقيقة، لأقول مستشهدا وهو استشهادي الوحيد بالمناسبة بمقولة للشاعر الكبير محمود درويش حين قال: أن الهوية هي تلك المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة، بمعنى أن الهوية ليست أمرا ناجزا أو ثابتا، نعم نحن ولدنا ولسنا مسؤولين عما ولدنا عليه، نعم نحن نعتز بنسبنا وبيئتنا وقيمنا الاجتماعية، لكن الهوية متوسعة ومنفتحة، تحتاج إلى تطوير، ليست ثمة هناك من هوية ناجزة، ومن يعتقد أن هويته ناجزة أعتقد أنه يعيش خارج التاريخ.

ربما ينزعج البعض من كلامي لكن مفهوم الهوية ليس ثابتا وليس ناجزا، والدليل الأكبر على ذلك حين خير سلطان الأطرش بين هوية طائفية ضيقة وهوية وطنية جامعة، فاختار الثانية ليفرض نفسه أحد أهم دعاة الوطنية الفطرية الصادقة المشحونة بالقيم والأخلاق، ثم عاد بعدها إلى إكمال مهمته بالكروم.

وأود أن أتناول في مداخلتي ملفين أساسيين: الملف الأول الفجوات أو العطب الذي تعرضت له الهوية السورية في السنوات العشر الماضية، ثم سأنتقل إلى مخارج نحو المواطنة الحقيقية.

سأدخل مباشرة في صلب الموضوع: أولا سأصنف تلك التشوهات التي حصلت على مفهوم الهوية في ثماني مستويات:

1- تأثرت الهوية الوطنية السورية بلجوء حوالي 12 مليون سوري لأسباب سياسية واجتماعيه واقتصادية خارج البلاد، حيث خسرت البلاد جزءا وازنا من رصيدها المجتمعي والشبابي المعول عليه في عملية ترميم النفوس.

2- بروز شبكة من النخب المحلية الجديدة والتي لعبت دورا في صنع القرارات بعيدا عن رأي السلطة التي يفترض فيها لعب هذا الدور، وترافق ذلك مع ظهور هويات منغلقة انعزالية، ولعل الحالة الكردية أكبر دليل على ذلك، إذ أن حرمان الكرد من حقهم في الجنسية ومن حقوقهم القومية وعدم احترام لغتهم كلغة ثانية بحكم تعدادهم السكاني وثقافتهم المتميزة عن الثقافة العربية خاصة بعد استعصاء عام 1962، أدى إلى تبني قسم كبير منهم نفسا انفصاليا خاصة في السنوات الأخيرة، ووقوعهم فريسة مشاريع استعمارية خارجية.

3- التدخلات الدولية والإقليمية التي غذت الصراع والتي زادت الشرخ الذي حصل بين السوريين، والتي عمقت انقساماتهم الوطنية على قواعد طائفية بغيضة، وهنا يتساوى الطرفان: يتساوى جيش السنة مع لواء فاطميون بالنفس الطائفي.

4- تفشي الفساد بشكل كبير في أجهزة الدولة والذي ساهم أيضا بتعميق الشرخ المجتمعي بين السوريين بدل أن تكون الدولة بأجهزة رقابتها وتفتيشها حريصة على مبدأ الرقابة والمحاسبة.

5- تراجع ثقة المواطن بمؤسسات الدولة نتيجة لسياساتها التجارية المتبعة من قبل الدولة لتغطية عجزها المالي في السنوات الأخيرة، ولعل آخر فصولها كان ضريبة البيوع العقارية، ما جعل المواطن الحلقة الأضعف في تلك المعادلة.

6- ارتفاع معدلات البطالة التي تشكل قنبلة موقوتة مهددة السلم المجتمعي والأهلي المؤسس لفكرة الوطنية، والذي سيدفع إن استمر مزيدا من الشباب باتجاه العنف والجنوح والجريمة، وهنا علينا أن نلتفت قليلا إلى بعض الإحصائيات الأممية التي قالت أن نسبة البطالة بفئة الشباب بين عمري 14 و25 بلغت 75 بالمئة، وهذا ما ينبئ بكارثة حقيقية.

7- الإشكالية الجديدة في علاقة الدين بالدولة، والتي منذ أن شرعت فيها فرنسا أيام الانتداب محاولة إنشاء دويلات طائفية بالتوازي مع دويلتي دمشق وحلب كما ذكر الدكتور فندي، وصولا إلى تلك النقاشات الحامية التي جرت تحت قبة البرلمان في عام 1950 حول علاقة الدين بالدولة، والتي انتهت باعتبار دين رئيس الدولة هو الإسلام، والتشريع الإسلامي أحد أهم مصادر التشريع، وذلك في مصادرة صريحة لمفهوم المواطنة التي تحرم المسيحي مثلا من الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، الأمر الذي عاد ليتكرر في دستور عام 2012.

إن كل ذلك ساهم في تهشيم الهوية الوطنية السورية والتي كان مقدرا لها في العديد من المحطات التاريخية أن تتبلور وتنضج وتخرج من معناها القيمي إلى الشكل الحقوقي والقانوني، لكن الفرص قد ضاعت أو ضيعت.

الآن ما هي المسؤوليات التي تقع على جملة من الفاعلين المجتمعيين الذين يفترض أن يأخذوا دورهم للمساهمة في الخروج من هذه المشكلات الثمانية باتجاه المواطنة الحقيقية والمواطنة المتسامحة؟

إن المواطنة بمعناها السياسي والحقوقي المعاصر لنشوء الدولة الوطنية الحديثة الذي وللأسف برأيي لم يعشه السوريون كما لم يعشه أقرانهم في العديد من الدول العربية، ولعل الإرهاصات التي تحدث عنها الأساتذة كانت إرهاصات تحمل القابلية لإنشاء الدولة الوطنية، لكن الدولة الوطنية بالمعنى الحديث الحقوقي والسياسي لم تنشأ في سورية كما لم تنشأ في العديد من الدول العربية، ذلك أن الدولة الحديثة بمعناها القانوني تعني التساوي في الحقوق والواجبات وانعدام الامتيازات وحرية الرأي والتعبير والتداول السلمي للسلطة والخروج من الدوائر ما قبل الوطنية كالعائلة والعشيرة والطائفة والدين، باتجاه قواسم وطنية مشتركة للجميع.

ولا أريد أن يفهم من كلامي أن الخروج من الهوية قبل الوطنية إلى الهوية الوطنية يعني رمي تلك الهويات الأساسية في حياة البشر، لأننا لا يمكن أن نلغي الهوية البيولوجية أو الهوية الدينية أو الطائفية، ولكن المطلوب هو فتح هذه الهويات الضيقة باتجاه أوسع وصولا إلى المواطنة.

إن الدولة المدنية لا تقصي أية فئة، بل تنظر إلى جميع أبنائها بعين المساواة، ولن نخجل يوما بنسبنا المرتبط بولادتنا، بل سنفتح أفقه بشكل أوسع كما فعل جدنا سلطان الأطرش وفارس الخوري وعقلة القطامي وجدي فضل الله هنيدي، سنحتفظ بكل هؤلاء الشجعان في وجداننا ولكن، سنضيف إليهم لمسة المعاصرة ونكهة العلم والمدنية والديمقراطية والحرية.

إذن على ماذا سيتم الارتكاز لإعادة بناء ما تشوه من هويتنا الوطنية السورية؟

أولا الدولة: إن تراجع الدولة عن أداء دورها الأساسي والحمائي أدى إلى الاعتماد على روابط إيديولوجية لتأمين الحماية، فعودة مفهوم الدولة إلى الواجهة لا بد أن يترافق مع تغيير سياسي ينجز استحقاق المصالحة الحقيقية، وليست المصالحة الشكلية التي نلمس صواعق تفجيرها في محافظة جارة مثل محافظة درعا.

ثانيا القادة المجتمعيون: وهؤلاء من رجال دين وناشطين اجتماعيين وزعماء تقليديين يقع على عاتقهم مهمات جسيمة، وعليهم أن يلعبوا دورا كبيرا في المرحلة المقبلة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنهم لعبوا أدوارا جيدة في المرحلة السابقة، ولكن يطلب منهم حث الناس على تبني خطاب وطني جامع، ويجب توسيع هذه الجهود من قبل رجال الدين والزعماء التقليديين للانفتاح نحو الفكرة الوطنية الأكثر ملاءمة للمرحلة القادمة.

ثالثا المجموعات العسكرية: تشكل مسألة إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والجيش أمرا مهما جدا وضرورة ملحة لأي مشروع وطني مستقبلي لسورية، وذلك لأن التعامل بعقلية ما قبل 2011 بكل دمويتها ومأساويتها لا يمكن أن يؤدي سوى إلى مزيد من الشروخات في الهوية الوطنية التي تهشمت أصلا، وهنا يتم التأكيد على مصطلح أمراء الحرب، وعلينا أن نكون واعيين ومميزين لهذا المصطلح، فشتان بين أبو عمشة وحركة رجال الكرامة في السويداء، بين الذي يرفع العلم التركي في الشمال السوري وبين رجال حملوا السلاح مجبرين للدفاع عن أرضهم وعرضهم، والذين طالما رددوا عبارة سلطان الأطرش: الدين لله والوطن للجميع.

رابعا شباب المجتمع المدني: يعول كثيرا على منظمات المجتمع المدني في سورية عبر طاقات الشباب واستقطاب جهودهم في إعادة هيكلة الهوية الوطنية السورية، من خلال وقوفهم حجر عثرة في وجه الاستقطاب السياسي بين موال ومعارض الذي لم يأت سوى بالخراب وتدمير الهوية الوطنية، وهنا لا بد أن نسجل جهود العديد من الشباب من بينهم منظمي هذه الجلسة، والذين لم يتركوا بابا إلا وطرقوه بحثا عن المشترك، ربما جلستنا هذه تعبر عن جزء من جهدهم. وعلى الرغم من تمايز وجهات نظرهم إلا أنهم قابلون للتحاور على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم في وطن حر ومستقل.

خامسا وأخيرا الإعلام: لا بد لنا من التنبيه على خطورة استخدام الآلة الإعلامية في تعميق الشرخ الحاصل في الهوية الوطنية من جميع الأطراف، إذ أن إعلام الدولة بمجمله ما زال مقصرا في نقل وجهات النظر المختلفة ويفتقر إلى الكثير من التطوير في خطابه ليغدو خطابا جامعا، وبالمقابل تجنح بعض قنوات المعارضة نحو خطاب طائفي وانفعالي إلى حد كبير ما يبعدها عن الخطاب الوطني الحقيقي الجامع للسوريين والمطلوب من قبلهم.

خاتمة لا بد للسوريين من مدخل أولي يقيهم شر تفتت هويتهم الوطنية، بل لإعادة تشكيل هذه الهوية مستقبلا يجب علينا اتخاذ الحوار سبيلا للتوصل إلى جملة قواسم مشتركة وإعادة صوغ عقد اجتماعي جديد يليق ببلد يستحق استعادة ريادته العالمية وإبداعه الذي لا مثيل له وطاقات السوريين في كل المجالات، فلا بد أن يكون انتقالهم من الاختلاف الطبيعي في الدين والمبادئ إلى الجامع الوطني الذي يضمن العيش المشترك وليس التعايش المشترك، وهناك فرق شاسع بين الاثنين، في ظل دولة الحق والقانون ودولة الحرية والعدالة والمساواة، الدولة التي يوما ما قال مدير متحف اللوفر في باريس: على كل إنسان متمدن أن يعلم أن له وطنين، وطنه الأصلي وسورية، عشتم وعاشت سورية.

شارك

Share on facebook