القصة الفائزة بالمركز الثالث مناصفة في مسابقة أبجد:
على سبيلِ التَسلية بدأتُ أفكّر في اختلاق شخصية أُحبّها، ومن مجموعة قصصيَّةٍ -كنتُ قد قرأتُها في أواسطِ مراهقتي-سرقتُ شخصية طفلٍ شقي، قدّرتُ عمرَه بطريقتي، وجعلت منه شابّاً محطَّ إعجابي، يماثلني في الاهتمامات، وكان له أن يكون شخصيةً مستقلةً وحرة، قيادية، نرجسية ومتفردة جداً، يتوقف ذكاؤه عند الحد الذي يجعل صبرَه ينفذُ فوراً حالَ افتراضه غباءَ الآخرين، فيكون فظاً وقتما يشاءُ دون أن يأبه لرأيهم فيه.
وهكذا وضعت فيه صفاتٍ لطالما تمنيت أن أمتلكها كي أتغلب على حساسيتي المفرطة تجاه الأمور، وتصورته وسيماً بطريقة تقترب من قلبي.
امتد صنع عالمي ذاك الكثير من الوقت، لا أذكر في الحقيقة؛ فبالرجوع لدفاتري-قبل أن أحرقها-تعود بداية الحكاية إلى أكثر من ستّ أو سبع سنوات مضت.
وفي غمرة أجواء تشبه أجواء أبي ورفاقه، ومن حيث جاءت غادة السمان -كاتبتي المفضَّلة -بمسرح اللامعقول في كتاباتها، وفي رحلة بين أسماء الكُتَّاب وعناوين الكتب ومفاهيم المادية الديالكتيكية والأفكار المركَّبة والرمزيات، حدثت القصة.
ورحت أثرثر معه بتلقائيةٍ وثقة، ظانّةً أني أعرفه جيداً أكثر من نفسه، تحادثنا في الكثير من المواضيع المثيرة لاهتمام كلينا بانسياب رائع، بانسجام دام قرابة تسعة أو عشرة أيام، ثم زال كل شيء فجأة دون سابق إنذار.
كان شخصية تمتلك من الجاذبية ما يكفيني لأقع في كمين تصديق خيالي، ولديها من التعجرف أيضا ما كان ينقصني لأنهي مسلسل الشّقاء الذي امتد ولمّا ينته ِ بعد -إن لم تعنّي المواظبة على تناول الأدوية -.
حيث لم يعد يجيب، انسحب بغتة ً دون أسباب واضحة، هذا الحدث بالذات من الممكن جدا أن يحدث في أيّةِ قصة، أم أنه خيالي الذي خذلني دون سابق إنذار، وشحّ فجأة؟!.
وهكذا صار لي جرح في قلبي يتسع ويتعمق ويتفصد منه القيح، فبتُّ بحاجةٍ إلى بعض الوقت لأحتوي نفسي، وقتاً ما لم يكن ليكفيه ما نصَّ القانون الأساسي للعاملين في الدّولة لتغيب العامل عن عمله، تخيل معي أن يضيئك أحدهم ثم يطفئ سيجارته في قلبك ويمضي، فلا تجد صوتك لتصرخ، ولا تجد أثراً لذلك السّافل الذي فعلها. كم كان سيلزمك من الوقت لتتجاوز الأمر عندها؟
وبناءً على ذلك خسرتُ عملي، ولم أستطع أن أُسِرّ بقصتي لأحد، فقد كانت صداقاتي في مجملها ظاهريةً تتقاسمها المسافات والمشاغل والغيرة.
ورحت أثناء احتراقي ذاك أتذكر تفاصيل قصصٍ عشتها قبلاً مع أشخاص عبروا قلبي، وكأنني خلقته خصيصاً ليكون قصاصاً عادلاً لي.
تذكرت -مثلا -جملة أحد العابرين الذي قال لي” تحمليني هالفترة، أنا نفسي ما بعرف شو بدي ” ولم ألقِ بالاً له وقتها طبعاً، ولم أتحمله، وتعجّلت النسيان وإنهاء القصة بحثاً عن الحب الكبير، ذاك الحب الذي يسوق للجنون.
” كثرة الكتب بتخربلك عقلاتك ” هذه الجملة هي إرثي الثقيل من أُمِّي البسيطة في تناولها للحياة، فحتى بعد وفاتها استمرت هذه العبارة ترنُّ في أذني عندما يلوح أي نقاش في الأفق، فأُحجِم، وما الذي كان سيستحق النقاشات أصلاً، لقد كانت لي حياة مستقرة ومثالية بشكل لا يطاق: عمل مستقر، أصدقاء كُثُر، وأهل ذوو سمعة حسنة، كل ذلك أصبح بعيداً جداً عني الآن>>.
· طيب طالما أنك حادثته مِراراً كما تقولين أين المحادثات في هاتفك ؟!
· كنت أحذفها لأحفظ السّرّ .. كنت أشعر أنني …مراقَبة طوال الوقت.
وفي نهاية هذه الجملة التي قلتها استطعت أن ألحظ التغامز بين الطبيب والممرضة.
ومن الجيد أيضا أنني أكتب مذكّراتي، طيب ما الفائدة طالما أنني ما زلت أعود لتلك اللحظات التي قفز فيها قلبي لأسترجعَ معنى السعادة الحقيقية؟ ما الفائدة طالما أنني أرغب في إنهاء القصة ويبدو لي أنني لا أرغب، وما زلت لا أفهم لِمَ لا يكون شخصية موجودة فعلاً ؟! لمَ لا أقتفي أثره مجدداً، طبعاً لن ألمّح إلى اقتراحٍ كهذا كي لا يعيدوني خطوةً إلى الوراء في العلاج.
اشترطت عليَّ أن يتم كل شيء تحت إشرافها لمنع الأذى -لا أدري عن أي أذى كانت تتحدث- طالما أن الكمية غير كافية لحملي من هذا المكان، والهيليوم على حد علمي هو غاز خفيف الظل، مسالم، غير سام، وغير قابل للاشتعال، يمكنه التحليق ، والبالون أيضاً هو أداة معروفة لتسلية الأطفال غالباً، مرنة جداً، هي تنفجر فجأةً دون سابق إنذار عند ازدياد الضغط المُطبَّق عليها لكنّها لا تلحق الأذى أيضاً.
طبعاً وافقتُ من دون نقاش؛ فآخر ما أريدهُ هو إلحاق الأذى بِغيري بعد أن نلتُ منه كفايتي.
والآن أطوي الرسالة وأدخلها في البالون وأبدأُ عملية تعبئة الغاز فيه.
حسب معلوماتي المتواضعة سيستغرق الأمر من تسعة إلى عشرة أيام ليحط هذا البالون على الأرض.