استيقظ آدوم محموماً برغبة الكتابة، طوى يديه متلمساً حبله الشوكي أسفل الظهر في محاولة يائسة كي ينتزع الخنجر المغروس في ظهره والذي لم يعد يشعره بالألم ، لكنه سيكون مثالياً كي يحفر أفكاره المتدفقة داخل جمجمته على الجدران.
بحجرٍ كلسي مدبب خط هذه الكلمات سريعاً :
/ أنا في المربع الأول … هذه ملاحظة كل الأصدقاء الذين غادروا مربعهم الأول بخفةٍ تشبه روح هذه الأزمنة، روح قابلة للطي وتوضع في الجيب أو تحشر في الثياب الداخلية غالباً، أنا أحسدهم على هذه المرونة الفائقة، المشكلة أنني حسب رأيهم، لا زلت مصراً على المكوث في المربع الأول ..!
طالما أن الجميع حولي غادر هذا المكان المسمى بالمربع الأول، فسيكون بمقدوري أن أحدثكم عنه، لا بد أن معظمكم غادرتموه إلى مربعات بعيدة، ولكن هل غادرتموه حقاً، أم أنكم قفزتم عن أضلاعه وزواياه دون أن تحطموا جدرانه ؟
يحدث هذا مثلاً عندما يقرر أحدكم أن يغادر إمرأة يحبها لأنه يملّ من المشاعر السابقة للبوح، في أن يقول لها أحبك …!
هكذا يغادر الحب إلى مربعات العلاقات المتشابكة والتي لا يكسر فيها أحدكم جدرانها، بل تحلقون خفافاً فوقها كمن يعبر مستنقع عبر الوقوف والإنتقال على حجارة لزجة .. تبدو لعبة محفزة تلك التي تسمونها في لحظات تأملكم .. لعبة الحياة.!
أما أنا … فلا أزال هنا .. في هذا المربع العنيد ، ولن أغادره قبل أن أحاول تحطيم جدرانه حولي ، فالمربعات كما أحسها هي أقفاص الوجود الأكثر صلابة ومن يقفز عنها ستلحق به خفيفةً كزنزانة طائرة، هكذا أتخيلكم خفافاً تشحطون خلفكم قطيع من الزنازين الخفيفة واللامعة وتبدو هذه الصورة لي أكثر وضوحاً من جدار المربع الذي يحدق بي الآن بتحدٍ يابس ..
نعم، ها أنذا في مربعي الأول ، طائشاً ..
غريباً ..
لا أرى شيئاً من خلف الجدران، بينما ثمة عالم فريد وشاسع يبدو حاضراً أمام محجريّ في تقصي تفاصيل هذا المكان الموحش .. المكان الوحيد الذي يبزّ الفضاء في غرور اتساعه .. وفي جنون رؤاه ./
كتب هذه الكلمات على جذع هيكل عظمي لإمرأة دفنت بجانبه قبل أعوام طويلة ، همهمت كما يفعل الأموات حين يستيقظون من النوم :
ـــــ ألا زلت مستيقظاً أيها الميت الأحمق ..
ثم ذهبت في نومها الخافت مرة أخرى، تنهد آدوم مفكراً .. ثم محى بحجر كلسي ما كتب على لوح الفخذ الذي للمرأة بجانبه، تلمس جدران القبر بسلامياته الناعمة، فكر في أنه سيقفز ذات يوم فوق هذا التراب مرةً أخرى.. وما المانع ؟
الأشجار تفعل ذلك، وبذور الهندباء والبرية والعكّوب الذي تقضي بذوره سنتين في أعماق الأرض قبل أن تشرق من جديد ..
يريد الخروج لأجل أن يتكلم .. أن يقول … وليس لينتقم من قاتله بالقتل، كان يشعر أن ما حُرم منه حقاً هي كلماته التي لم يستطع نطقها عندما كان حياً ذات يوم ، أيقظ المرأة بجانبه وهمس كميت حزين
ـــ أريد أن أكتب ..
ـــ لم يعد هناك متسع في عظامي للكلمات ..
ـــ أشعر أنني مصابٌ بالأمل
ـــ يا للكارثة ؟
شهقت المرأة الميتة بدهشة .. ووضعت سلامياتها على جمجمته الباردة، احتوته فوق قفصها الصدري المتهالك وغنت له لحن بارد كأنفاس كانون .. لحن عن مدينة المربعات الإسمنتية على السطح .. وعن براريها الخائفة ولحن الأمل الذي يغنيه الأموات كل شتاءٍ للبذور .. حتى غفا
هي أيضاً تصاب بالعدوى أحياناً .. غفت إلى جانبه في مربع القبر الرطب ..
وكان بجانبها يهذي حالماً بالقول .. هناك … تحت الشمس .. ولو لمرة واحدة كي يقول للأحياء ما لم يقله يوماً .