مارا : عنوان رواية الكاتب السوري شكيب أبو سعده الصادرة عن دار الحوار للنشر والتوزيع ، اللاذقية ، سوريا ، في طبعتها الأولى ، منتصف2021 وهي الرواية الثالثة للكاتب بعد روايتيه : سَنة العصافير ، و : الهلالي ملكاً.
( أسْمتْه والدته سرحان ، على اسم أبيه. اسمُ زيَّان جاءه من الزقاق والشارع حيث كان يلهو مع أترابه في ضيعة عين الميْر .طلبَ البيكُ من أصدقاء سرحان الصغار مناداته (زيناً) لكنهم تحولوا لمناداته زيَّان …. هو زيان بن سرحان بن أيوب ، والدته مارا بنت عمران ) ص29
(عائلة أيوب وعائلة عمران بدأتا أول هجرة لهما من فلسطين ، تركت العائلتان قرية مجدلايا المطلة على مَرج ابن عامر ، وقدِمَتا إلى سهول حوران .. قصدت العائلتان ضيعة عين المير بعد تنقل مرير في لبنان من مكان إلى آخر .عند أول الليل ، طرق جابر الموسى باب البيك الأب ، طالباً منه السماح للعائلتين بالإقامة في عين المير ريثما يزول الظلمُ الجاثمُ على مجدلايا وينزاحُ عن المرْج شبحُ الاحتلال) ص 57
نلاحظ ،بداية ً، أن أسماء الشخوص الرئيسة ،مارا بنت عمران.. سرحان بن أيوب ، لها في الذاكرة وفي الوجدان جذوراً راسخة ، وفي نفوسنا مكانةً ومعنىً ، وأن لها ، أيضاً ، ظلالاً تاريخية ودينية ، وأن مسرحَ الأحداث الذي تتحرك عليه هذه الشخوص لا يقتصر على ضيعة عين المير ، بل إنه يمتدُّ ويتسع ليشملَ كل الأمكنة في بلاد الشام ،وهذا هو الملمحُ الفني الذي يطالعنا في بداية الرواية : نصطلح على تسميته الملمح الأول .ومن شأن هذا الملمح أن يرفع الحكاية : يحْمِلها من دائرة الخصوصية الضيقة إلى مناخات رحبة . ثم إن الكاتب استغنى عن الراوي وقام بسرد الحكاية بنفسه :
(حملتُ المخطوط في حقيبة صغيرة ..كان همي الوحيد أن يصلَ هذا المخطوط لدار النشر) ص 14 لكن ، بين اليقظة والنوم وخلال سفر الكاتب بالقطار، يفقد المخطوطة ثم ،بعد مدة ،يجدُ بين أوراقه القديمة مسودة منسية للمخطوط المفقود(كنتُ قد أجريتُ عليها تعديلات لا تعد ولا تحصى.. تصفحتُها وجدتُ فيها نصاً لم يجرِ عليه أي تغيير كأنه في صيغته النهائية جاهز للطباعة) ص21- 22 هذا يعني أن للحكاية صياغات ٍ متعددة وأن الصيغة السردية التي بين أيدينا إحدى هذه الصياغات : أي أن الحكاية تحدُث دائماً ،وهذا هو الملمح الفني الثاني في الرواية ،وهو ملمح مضفور بالملمح الأول: ملمَحان يعززُ الواحدُ منهما الآخر بحيث يحققان معاً غرضاً سردياً محدداً :
هذه الحكاية ليست ذاتية ولا تنحصرُ في حيز محدد : إنها حكاية متجددة ، تحدث في كل أرض .
لعل هذين الملمحين الفنيين هما الأكثر وضوحاً ، ونهوضاً في الرواية.
(نادى البرناوي على سرحان في ليلة عرسه : ” يا سرحان ! “
سرحان الذي يناجي النجمة بلغتها والذي كان يبطح جَملاً بقوته أخذه البرناوي ورجاله إل البيك … قال له البيك مهدداً : ” ألم أقل لك أن تغادر الدار ؟ هل نسيتَ حقَّ البيك في الليلة الأولى مع عروسك ؟ ) ص 35 . وحين رفض سرحان الرضوخ للبيك ( مضى البرناوي ورجالُه بسرحان مكتوفاً إلى مشبك الوديان ، ناولَه مجرفة وقال له : احفر التراب حتى أقول لك توقف ) ص39 (أطلق على سرحان طلقتين .. وأرداه على الأرض يتخبط بدمه .. قبْلَ أن يدفعوه إلى الحفرة ويهيلون عليه التراب نظرَ من قاع القبر بعينين واسعتين في عيني البرناوي الذي اقشعر بدنه ) ص41 .
عريس وعروسه ، لاجئان ، فلسطينيان ، في ليلة زفافهما، يغتصبُ البيكُ العروسَ ، ويقتُل العريس .
هذا هو الحدث الرئيس في الرواية : هذه هي الحكاية المتجددة
كان سرحان ومارا قد تزوجا في العاصمة ثم عادا إلى ضيعة عين المير لإقامة حفل الزفاف.. وعندما ظهرتْ أعراضُ الحمل على مارا ، وهي في بيت خالتها في دير الشيح ،أصابَها دُوَار : هل حبلتْ من سرحان ؟ أم من البيك ؟ فكرتْ أن تتخلص من الجنين : ” قتلُ النفس حرام ” قالت خالتها .
( عندما ولدتْ مارا طفلها ونظرتْ إلى وجهه أحسَّتْ أنها تنظر في وجه سرحان ..قالت بصوت خافت: ” الحمد لله إنه ابن ُ سرحان ” ) ص 66 . الأيامُ تمرُّ والولدُ يكبر ( يحبو في شهره الخامس ، ينطقُ أولَ كلمة كاملة في شهره الثامن .. لم تكن أول كلمة نطق بها : ماما . نظر إلى أمه وقال : “مارا ” .. اقشعر بدنُها .. لم تصدق ما سمعتْ . اسم مارا لم يكن متداولاً في البيت .. لم يكن لها صديقات ينادينها باسمها . لقد عاشت في كفر الشيح منعزلة عن الناس ) ص67
مِن أين أتى الطفلُ بكلمة مارا ؟ ( عندما أخبرتْ خالتها بذلك صعقتْ ولم تصدق حتى سمعتْ الطفل للمرة الثالثة يقول : مارا .. تقول لخالتها : لو كنتُ أؤمنُ بالتقمص لقلتُ إن ولدي سرحان تقمَّصَتْ فيه روحُ والده سرحان ) ص68 تردُّ الخالة : ( إياك ِيا ابنتي أن تقولي ذلك أمام أحد . مصائبنا كثيرة وتكفينا .. ما لنا وللتقمص ، نحن لا نؤمن بذلك ) ص 68
لقد وظَّفَ الكاتبُ مفهومَ التقمص كي يحقق غرضاً سردياً : الفلسطيني لا يموت ، إنه كطائر الفينيق : ينهض من موته . وهذا ملمَح ٌ فني جوهري مضفور ،بعناية ، بمضامين الرواية وأهدافها العليا .
من جهة أخرى فإن رواية مارا تثيرُ ، على المستوى الفني ، إشكالية ً هامة ، تتصل بتوظيف الشعر في العمل الروائي .ينبغي التأكيد ، أولاً، أن لغاتٍ فنية كثيرة ، من بينها لغة الشعر ، يمكن أن تكون مضفورةً في لغة السرد ،ويمكن لعملية الضفْر هذه أن تنهض بالرواية عندما تكون مُصاغةً في بنية النص مُعززة ًأغراضه السردية.
لننظر إذن في هذه المقاطع :
( قال سرحان :” يا مارا ! يا امرأة ! من ذهب الليل المتصدع بالحنين
يا امرأة الوجد المزمن ” ) ص31
وأيضا : ( سرحان :
” تمرُّ مارا من لهاثيَ الباكي على نهدين يتيمين. أوجعت الحقول بنهيد
غلمة نافرة ، ولهاث أغان ماكرة
لا يطالُ الليل بطوله ، ظِلَّ سرتها العالية … ” ) ص37
لننظر ، أيضاً ، في السرد الصادر من منظور مارا :
( غني لي يا خالتي أغنية حزينة عن الحب
أغنية تساعدني على البكاء
سرحان يا خالتي ترك ظله على قلبي ، ظلاً لا ينحني مع شمس في
مسرب الغياب .. ..
أعينيني يا خالتي على البكاء. البكاء الذي يمجد رعونة الحياة ،وعبثية الموت)ص52
ولننظر ، أخيراً ، في السرد الصادر من منظور خالة مارا :
( والله ، لقد أبكيتني يا ابنتي ! كما لم أبك ِ من قبل
لم أرَ قمراً تمزقه نسائمُ الجنوب ، كما رأيتك الآن
لا أستطيع من أجلك الغناء
لأنكِ لم تتركي في حنجرتي سوى هتاف حمامة ، ونحيب ليل ) ص54
عند النظر في هذه المقاطع نلاحظ أنها شعر ٌ مُتقن ٌ ، ورشيق . غير أن السؤال :
هل هذه الفضاءات الشعرية مُصاغة في بنية الرواية ؟ وفي محاولة الإجابة نقدمُ هذه المقاربة :
إن هذه القصائد ( الرومانسية والمتقنة ) هي سَردٌ صادرٌ من منظور شخصيات الرواية( سرحان ، مارا ، خالة مارا ).سرحان ليس شاعراً . مارا ليست شاعرة ومفردات القصيدة التي جاءت على لسانها لا تنتمي لرصيدها اللغوي . وخالة مارا ليست شاعرة ، وتنطوي القصيدة التي جاءت على لسانها على ثقافة تتجاوز حدود وعيها . في هذه المقاطع يخرجُ السرد ُمن منظار الشخصية ، والصوت في هذه المقاطع أقربُ إلى صوت الكاتب ، الذي هو شاعر ، منه إلى صوت الشخصية، وهكذا فإن مقاطع الشعر هذه لا تعزز أغراض السرد ، وغيرُ مُصاغة في بنية الرواية
وتبدو سابحة ، في خفة وعذوبة ورشاقة ، فوق نسيج السرد .
رواية مارا تذهبُ إلى مضامين جوهرية وتجلو بعض الغوامض في نفوسنا ، وأيامنا ، وتاريخنا ، وفي ثناياها ملامح فنية وجمالية ، وحداثية ،لافتة، ولا تخلو من هناتٍ فنية أشرنا إلى بعضها .