لم يعد الاحتفال بليلة رأس السنة الميلادية طقساً دينياً بقدر ما أصبح عُرفاً اجتماعياً عالمياً يوّدع الناس فيهِ عاماً مضى بكل ما حمل معه من قصص وذكريات وانجازات ويستعدون لاستقبال عامٍ جديد مليء بالأمل والخطط والتطلعات الجميلة في طقس احتفاليٍ مملوء بالدفءِ والسعادة وشجرة تزينها الآمال والأضواء الملونة والهدايا وما لذّ وطاب من الطعام والشراب.
( وهذا كله ما لا يحدث عند السوريين)
ليس لأننا لا نحب البهجة والفرح ولا لأننا لا نملك التطلعات والأماني ( فنحن نحب الحياة اذا ما استطعنا إليها سبيلا ) لكن السنوات لم تترك لنا من المناسبة سوى المسامير التي صُلب بها السيّد المسيح وصليبٌ خشبي تقاسمه أباطرة الحرب بغرض التدفئة، والكثير الكثير من الموت، منذ أكثر من نصف قرن لم تكن السنة التالية بأفضل من سابقتها، أما العقد الأخير من السنوات فكان انحداراً قاسياً عنوانه الموت والتشرد والفاقة والبرد وتشظي الأخلاق، واضمحلت سُبل العيش لتسجل الأمم المتحدة في تقريرها 26 حزيران 2021 بأن 90% من السوريين (يعيشون) تحت خط الفقر. ناهيك عما يهدد به فايروس كورونا المتفشي في ظل الظروف القاسية وما يحصده من الأرواح.
وعلى الرغم من ظروف الفقر التي تربينا بها إلا أن بابا نويل الطيب ورمزيته الخيّرة كان يملأ خيالاتنا بالحب والأماني وهداياه المتواضعة أحياناً، هذه الهالة الأسطورية باتت تتجسد اليوم أمام الأطفال بنسخٍ رديئةٍ تملأ الشوارع وتقدم نماذجا للابتزاز والتسوّل وهو يبيع عنوة البالونات أو القبعات الحمر مُلحاً رغم رفض الطفل لعرضه المكشوف في ابتزاز النقود من جيوب الأهالي. أو في الحالة الأخرى وهي اصرار الطفل على امتلاك البالون الذي وضعه بابا نويل عنوة في يده ودفعِ ثمنه عدة اضعاف من قِبل الأهل. لنكون بذلك قد هشّمنا في خيال أطفالنا تلك الصورة الجميلة عن رجلٍ طيِّب يحلّق بعربة تجرها الأيائل في رحلتها من القطب الشمالي ليوّزع الهدايا على أطفال العالم.
ليست هذه المرة الأولى أو الوحيدة التي يتم فيها توظيف ما هو شعبي في الترويج والتسويق والاعلانات التجارية، حتى أن بابا نويل لم يكن يمتلك هذا اللون الأحمر ولا هذا الشكل السمين اذ أن الوصف الأول له في قصيدة الشاعر كليمنت كلارك مور بعنوان “زيارة من القديس نيكولاوس” لم يكن فيها وصفاً لشكل وحجم هذا القديس فتناوله الرسامون بأشكال وألوان عديدة إلى أن وظفته شركة كوكا كولا في أحد اعلاناتها قبل مئة عام بهذا الشكل السمين الذي يرتدي اللون الأحمر ويشرب منتجها ليواصل رحلته في توزيع الهدايا، ومن يومها ارتدى سانتا كلوز اللون الأحمر، لكن كوكا كولا وكل الشركات التي عملت على توظيف شخصية بابا نويل أو غيره في اعلاناتها لم تنتقص من جوهر الشخصية ولم تأتِ به بهذا الشكل المتشرد المتسول الذي يجوب شوارعنا بالمئات.
نعم جاءت أمريكيا وروسيا وايران وغيرهم من بدو وحضر بسانتا كلوزاتها وان اختلفت اسماءهم فالقديس نيقولا يتقاسم الأرض مع ديد موروز الروسي والايراني باسم كل عناوين المحبة والانسانية ينشرون الفقر والأسلحة والمخدرات. لتمتلئ شوارعنا بالنسخ المشوهة من بابا نويل السوري المتسول الذي تقدَّم إلى الشاغر الوحيد المتوفر في نهاية هذا العام متنكراً باللحية البيضاء واللون الأحمر كي لا يتعرف أحد على هويته. هذا الزي التنكري هو كل ما كان يلزمنا لنتسول من دون أن نُريقَ ماء وجهنا.
بابا نويل هذه الأيام اصبح الزي الرسمي لمهنة التسوّل بعد انصرافنا من اعمالنا ووظائفنا التي باتت عاجزة عن سد رمق ايام معدودة من الشهر أو حتى عن تقديم هدية لأطفالنا.
بابا نويل التاجر المشرد أصبح خيار الطلاب الجامعيين والمراهقين والموظفين والعمال والفلاحين وصغار الكسبة.
بابا نويل السوري الجائع والبردان والمسحوق يوّحدنا باللون الأحمر الذي غصصنا به وسال فأغرقنا. يوحدنا كذلك بالموت وبالوجع والجوع والبرد.
والمداخن التي كان يرمي منها الهدايا أغلقها السوريون باليأس والصقيع.
بابا نويل السوري ” يحب الحياة اذا ما استطاع إليها سبيلا ”
ويأمل أن يكون العام القادم ككل مرة أخف وطأة من سابقه
أما عن شجرة عيد الميلاد فأقتبس ما كتب الشاعر السوري هاني نديم: