صدر كتاب بعنوان: “نظام التفاهة”، لم تتسنى لي قراءته بعد، لكن من هذا العنوان المُنتقى بذكاء، توقعت مضمونه وعمّا يتحدث، وبالتالي سوف أقتبسه وأبني على أساسه رؤية خاصة.
يبدو بأننا نعيش اليوم تلك التفاهة المُندرِجة تحت نظام مدروس برويّة مُحنّكة وأبعاد خطيرة، مُحاكة بخيوط خبيثة ومتينة في آن معاً، هذا النظام يعمل على تعويم التافه والمُبتذَل والغث، بل وإبرازه إعلامياً ليغدو واقعاً فجّاً لا محيد عنه، حتى يقتنع به: (الجويم، وهو القطيع البشري في العرف اليهودي/الماسوني) اقتناعاً تاماً، وهويّته التي تلتصق به أيما التصاق.
كان الجمال معمَّماً مثل كل ما في الحياة، وذلك حين كانت الأمم تنهض نهوضاً عامودياً متيناً، ابتداء من التعليم وهو الأهم والأعظم والأخطر، كنا نلمس قيمة المُعلِم المؤسِّس لمجتمع صحّي متين، ليلحق به القضاء النزيه، وصولاً إلى كل ما يدور في ركب قوانين نظام موسيقي متناغم ورائع. ما بعد الألفية الثانية صارت بذور الانحطاط تزهر وتينع وتتمدد، وكان قد تحدث عنه الكتّاب ممن يقرأون التاريخ بحذر، ويرون المُستقبل بحنكتهم الخاصة، وكان أحدهم على سبيل المثال لا الحصر الكاتب أمين معلوف، عندما وضع رأيه ضمن كتاب: “اختلال العالم”، فكتب عن هذا بصراحة بالغة ودون مواربة في هذا النظام الجديد. سيقول لك قائل: “يا أخي، هون –أي في هذه الجغرافيا- هيك تعودت الناس”، لا يا صديقي، الصنف البشري يتأقلم بصورة مفاجئة، إن الإنسان نفسه الذي تربّى على الانحلال والسخرية من القانون، في فترة قصيرة سنراه مُلتزماً بما يفرضه القانون الجمعي لدولة أخرى، واندماج السوريين في الدول الأوروبية ما بعد 2011 لهو مثال عظيم. والأهم عندما يغدو الأمر معكوساً، وهنا نلمس نظام التفاهة لمس اليد، ليتعمم أفقياً على تلك المرافق ذاتها، فيغدو التافه أو المُتفَّه بقصدٍ أو غير قصد، هويّة الحياة التي تُنخَر نخر السوس، وتهترئ هريان الخشب.
في منتصف القرن الماضي الذي نترحّم على أيامه، كانت أناقة الرجل المُعمَّمة في حينها، تتجسّد بالبدلة المكويّة بعناية، وربطة العنق والقبعة أو الطربوش، زي الكبير والصغير، اليوم هذا الرداء المُحترَم يوحي بالغرابة؛ غرابة فاتنة!!. ونجن إذا خسرنا فتنة الزي الأنيق، فقد تبعه خسارات أخرى أكثر فداحة، أصبحنا نستغرب صوت أم كلثوم أو فريد الأطرش أو عبد الحليم حافظ، والخارج من نافذة مفتوحة، ونتوقع أنها امرأة عتيقة تبكي زمناً غابراً، أو مُسجّل يصدح بأغاني للشيخ إمام أو مارسيل خليفة وعلي الحجّار وسميح شقير…الخ، فيصيب الكثير سخرية أو امتعاضاً واستغراباً. يعني وكأن الهادئ لا يتناسب مع روح التطيّر الذي مسَّ هذا الشعب.
وبما أن نظام التفاهة كما كل المصائب لا تأتي فُرادى، فقد كان من طبيعة الأشياء أن يتبع كل ما سبق انحطاطاً في أولويات تلك المجتمعات التي كانت في الأمس القريب مبنية على الرِفعة والسمو. وأهمها الثقافة: المسارح ودور السينما والمكتبات، والتي تذهب في خطٍّ بياني يسير بسرعة نزولاً نحو الحضيض، بينما الخط الآخر: “نظام التفاهة”، يحلّق عالياً بارتفاعٍ مخيف. صار من المُستغرَب أن ترى شخصاً سارحاً في كتاب، ما خلا كتب الأبراج التي تزداد مبيعاتها أول كل عام ميلادي، وبعض كتب الرعب التي تدور حول أهوال المقابر، وكتب فك الخط وغيرها من الخزعبلات… إنه لعمري بأن صاحب أغنية: “جنّو نطّو” قد أمسى أشهر بما لا يُقاس من الممدوحين: ممدوح عزّام وممدوح عدوان، وغيرهم الكثير ممن لا تتسع لهم عجالتنا هذه… فتخيّل يرعاك الله كما كان يقول البُجيرمي.