القصة الحائزة على تنويه لجنة تحكيم مسابقة أبجد بدورتها الثالثة
إراقة الماء على أطباق الغرباء هو عملي منذ مدة، لو اقتنصَتني عدسة تصوير لأنتجت ساعات مبنية على مقطع سيظنه المُتابع مكرَراً فيملّه وينهض، لكن هذا التكرار الذي أَملَّه يشكّل حياتي، تُسدد العدسة عينها إلى وقفتي من الخلف، ظهري شابَه بعضُ الانحناء، يداي تنجزان الحركات نفسها في رتابة وكأنني مصابٌ بمتلازمةٍ ما، تتحرك يدي شمالاً لتنتشل طبقاً ملوثاً مرتكباً لجريمة الشراهة، تُعمل فيه الصابون تطهيراً لإثمه، تنقله إلى ضفة التائبين عن الولوغ في الطعام، تتكدس الأطباق التائبة والصابون يحكّ أطرافها وقيعانها، يلسعها، يجعلها تندم على أخطائها السالفة، يحكي كل طبق لصاحبه عن ذنوبه، يشتكي غلظةَ يدي، أو يشْتُمُ رائحة سائل الجلي الجديد ويعبّر عن غرامه برائحة الليمون السابقة فيجيبه طبق آخر يرزح تحت ثقله بأن رائحة المنظف ليست مهمة وأن المشكلة تكمن في مصيرهم الذي لن يتغير واضطرارهم لإمضاء بقية عمرهم كأطباق، أستهزئ بمنطقهم فمن يحق له التذمر بيننا؟! أستهزئ بابتسامة سوداء ويدي تتحرك حركتها الثالثة، فبعد تجميعهم أريق المياه فوقهم ثم ترتفع يدي لتوصلهم إلى آخر مثوى لهم في الأعلى، تقطر مياههم قطرة تلو أخرى لتدلّ على انتعاش وخلاص في حين لا يقطر مني سوى عرق الكدّ.
اجتهادي المُبالَغ فيه لا يعني نهاية العمل، فتوبة الأطباق يحكم فيها ويبتّ بشأنها رئيس منظفي المطبخ، يقرّب نظارته إلى الأمام حتى آخر أنفه ويحدّق في الأواني، فإما تعبر بسلام أو تحالُ إليّ لأعاود تطهيرها، فالملعقة الفلانية ما يزال أثر فم الآكل عليها، والصحن المُذهَب يحتاج أن تحتك به الإسفنجة مؤنّبة مُطلِّقةً أسلوبها اللين لأنه لم ينفع لتأديبه في الاحتكاك اللطيف الأول، أما طبق السمك فتوبته صعبة وخطؤه موغل والرجوع عنه ما هو بهيّن، ورغم أننا في مطعمنا ألحقنا وصمة سكب السمك بأطباق معينة فعزلناها عن إخوانها من الأطباق مبررين طواعية عنصريتنا ذات الأسباب المُقنِعة إلا أن العزل والحجر في حقها غير كافٍ، لم يساعدها على التكفير، فالرائحة التي اقترفتها عالقة بها كخطيئة تعادل الكبائر ولا بدّ من تنظيف ثالث ورابع وتعطير مكثف ليرضى عنها المشرف وينطق بإحالتها إلى الأطباق النظيفة بريئةً حتى إشعار آخر، أي حتى يدفعها الحمق لتكرار احتواء السمك رغم ما سببه احتواؤها له من متاعب، ربما تهواه، وما هي إلا عمياء في حبه، تحتويه بلا شروط!
نكتة فابتسامةٌ سوداء أخرى ضحكاً من وقوع الأطباق في الهوى ووقوعي في أوحالهم وأوساخهم.
على هذه الحال أمضي أيامي مخاطباً البقع مسترحماً إياها، يوفر المطعم إضافة إلى راتبي المأكل والمنامة فأخرُّ قبيل انتهاء الليل صريعَ معركةِ تنظيفٍ غيرَ قادرٍ على تحريك سلاميّة في أصابعي، أشعر بمحدوديةٍ في تحركات يدي، شمال، يمين، أسفل لانتشال مذنبي الصحون، ثم أعلى بعد تطهيرها، وكأنني نسيت ما دون ذلك من حركات، بل إنني أحسب حركة كهذه شللاً يتسلل إلى قدمَي شاب حريٌّ بهما الركض والانطلاق، شللاً يتسرب إلى ذهنه كان بوسعه أن يصرف أرقه وسهره على أشياء أكثر فائدة وهنا يكمن جرحي العميق الذي أُسكته بتجاهل هاجرٍ لحبيبٍ متشبّث به.
هزّ ربيع رأسه في ملل، صادفَ أنه اصطحب شقيقه رامي في ذاك اللقاء، مللُ ربيع قابلَه تشوق رامي لمعرفة التتمة، سأل: ما حكاية هذا الطقس يا مرهف؟
لم أُبالِ بتفسير ربيع فهو التفسير ذاته منذ حكيت له القصة، تابعت شرح الفكرة لرامي: يُطلِق إحسان التخمينات حول الفناجين والملاعق والأطباق محاولاً حزر أي تفصيل يتعلق بمُستخدِمِها ويراجع الموظفون من حوله الكاميرات مستعينين بساعة قدوم الزبون التي ندوّنها يوم الأربعاء على كل طبق وأقرب تخمين يتوصل إليه إحسان ويستطيع الموظفون تحديد صاحبه يحظى صاحبُه بمنحىةمالية محترمة من إحسان.
ما قيل حول إمكانية مشاركتنا في الفعالية قلَّب عليّ مواجعي، تمنّي أن أكون مكان الفائز تجدّد، نفسي تراودني، تغريني أن أجرّب، لستُ مثل متوسطي الحال أو المعدمين الغرباء، أنا موظف في المطعم ولا شك أنني سأُمنَح استثناءً، ثم إنّ أصدقاء إحسان يحضرون المجريات ولن يخزي نفسه أمامهم برفضي وتوبيخي، لا أدري لِمَ لَم يجرّب بقية الموظفين حظَهم، ربما لخشيتهم من هيبة المالك وافتتاحِ بوابة الجرأة بأياديهم أو لأنهم لم يحتاجوا المال بقدري، منذ أصيب والدي أثناء أدائه لعمله وأنا معيل الأسرة الموفد إلى المدينة للعمل، توظفت في مجالات عدّة إلى أن انتهى بي الأمر في مطعم إحسان، أقتسمُ مكاسبي البسيطة معهم، أنقض على طعام العمال بإقبال جائع عتيق، ثم أحط برأسي على وسادتي في المستودع الضيق الذي فُضّل علي حين أتيح لي استخدامه لنومي، في خضم هذا كَثُرت غياباتي عن الجامعة ففُصلت ولم يعد بإمكاني العودة إلا بعد تسديد رسوم لا أملكها لاضطراري أن أقدّم حاجات أسرتي على حاجاتي. الآن تستيقظ رغبتي العنيدة في إقحام فنجاني بين فناجين الزبائن، سأحتاج تجارب عديدة قبل أن يُنتقى فنجاني وقد لا أفلح، فإحسان ينتقي عشوائياً قبل بدئه بالتخمين لكنها فرصة أودّ استغلالها.
اقتطعت لنفسي وقتاً لتحضير القهوة خلسة أثناء ساعات الدوام، أشربها على عجل باردةً جرعة واحدة أثناء تنظيفي للأطباق ثم أدسّ الفنجان بين عشرات الصحون والأكواب والفناجين مُرَتِلاً عليه أدعيتي، حافّاً إياه بأطيب أمانيّ، مستعيناً بأمي لتتبتل وتدعو لي بالتوفيق في غزوتي، صرت من المهتمين بجلسة التخمين، أحضرها بعدما كنتُ أنفر وأسخر منها، أراقب إحسان وهو يطلق تخميناته: يبدو على مستخدم هذا الكوب أنه امرأة قُدَّت من الجمال والرفعة، بالكادِ لامسته أصابعها، حمرة شفاهها هادئة اللون، مهنتها تصبّ في طبيعتها الرقيقة، يطلِق استنتاجاته وعيناه تكادان تقبّلان الكوب فأشكّ في أسباب إطلاقه لهذه الفعالية، ثم ينتقل لغيره فيحلّل ويشرح: هوجاءُ استعملته، بصماتها بادية عليه، لا معرفة لديها بقواعد الإتيكيت، شَرِهة، أرجّح أنها جاهلة، ويضعه جانباً بمزاج معكَر، يلتقطُ آخرَ ويقدّم وجهة نظره: أراهن أن أستاذاً استخدم هذا الصحن وربما كان يصحح أوراق الامتحان وهو يتناول كعكته، فالخدش الرفيع الأحمر على طرفِه عائد لقلم التصحيح، وأحسبه رجلاً لأن الملعقة المرفقة به خالية من أثر الأنوثة اللطيف وكأنّ الشعرةَ الساقطة فيه شعرة شارب غالباً.
أراقبُ هذا الهراء كلّه وعيناي تكادان تدلّانه على فنجاني وتقتادانه إليه بتعويذة أخترعها: “بالله عليك، عرّج عليه.” أرمق خاصّتي طويلاً فأخاف كشف نفسي وأجبر نظراتي على تحاشيه مرغمةً.
ويُثبِت المقطع المُصوَّر كلامي، فما من أحد من الموظفين احتسى القهوة في تلك الساعة، يتقدّم مني إحسان وتُصَوَّبُ إليّ نظرات زملائي بين راثٍ لحالي ومتمنٍّ لمكاني فمصيري لم يكن واضحاً، لكنهم أجمعوا على الاستغراب من تجرُّئي.
فرحةٌ تشبه الحلم، تتصعّد سعادتي بشكلٍ مريب، لا أصدق ما نلتُه، أحلّق لأخبر أمي أن غزوتي أفلَحت، أُهاتف ربيع فيهنّئني، يتمنى لي أياماً طيبة في الجامعة ويتأسف لأنه تخرّج ولن يشاركني حضور الدروس والمشي في الأروقة، أجهّز نفسيتي لخوض معترك الاجتهاد الذهني العميق ثانيةً، أشكر يدَي على صمودها معي كل هذه المدّة، أطمئنها بأنها لن تحجّم في رياضة الجلي المقيتة وتقتصر على تحركات: شمال يمين أسفل فوق، أركض بالمنحة التي نَقدَني إياها إحسان أمام الأعين حسبَ عُرفه فأسدّد رسومي وأرسل قبلة لكلّ ركن في الجامعة ثم أعود إلى المطعم لأغادره بلباقة وأوضح أني أحتاج عملاً جديداً يتلاءم مع دوامي الجامعي، كنت قد خططت لطلب مقابلة إحسان لأشكره، لكنه سبقني! أُمرت بزيارة مكتبه.
أدارَ كرسي نحو الجانب ورفع قدماً فوق قدم، قلمه الذي ينقر سطح طاولته استفزني ولم يبشّرني بخير، لم أخرج من مكتبه إلا والهمّ قفز فوق كتفَي وركبني، عرفَ كيف يقطع دابرَ أماني العمال في المشاركة ويئدَ آمالهم في مهدها ويكبتهم فما كتبَه عليّ سيؤدي بهم للندم على مجرد التفكير بتقليدي والاقتداء بي.