“سقراط”
ماذا ستكتب عن الموت حين يوشك على الاقتراب منك وربما قبل ذلك ؟
هذا ربما سؤال مؤرق لازم البشر ومازال يلازمهم وقد تفتق وعيهم وتصوراتهم للموت على هيئات عديدة تتشابه الى حد بعيد على مستوى الأساطير والأديان وحتى على مستوى النصوص الابداعية لكن بطرائق وحلول لغوية مختلفة تنضح من كل ذلك لتعيد ترتيب تصوراتها للمعاني التي ينطوي عليها مفهوم الموت وخاصة الوشيك منه.
وكيف لا يشغل البشر بهذا الموضوع وهو الماثل أمام أعينهم وهو السياف الأعمى العادل الذي يستوي عنده القاتل والضحايا ، الغني والفقير ، ذو العقل وأخو الجهالة على حد تعبير المتنبي ، لعلي بدأت أشم رائحة دينية في لغتي وهو ما لا أريده، فأنا أريد الحديث عن الأحياء والأموات إنما بصيغة الحياة .
ومن المفارقات الملفتة التي صادفتها عند الشروع في كتابة هذا المقال كتاب منشور في العام 1980 بعنوان الموت والوجود لمؤلفه جيمس كارس وما لفتني حقيقة في الكتاب بشدة هو التقديم الذي كتبه أوستن كوتشر للكتاب بوصفه رئيس مؤسسة دراسات الثاناتولجيا أو الموت وتكمن المفارقة هنا بين شعوب تحاول فهم الوجود أكثر وأكثر وبيننا نحن الذين نعاين الموت المجاني كل دقيقة.
يطالعنا الوعي الأسطوري بماهو جملة من التصورات التي حملها الوعي الإنساني في مرحلة تاريخية قديمة بقصص شتى تحاول الاقتراب من فكرة الموت ومن أطرفها أسطورة ناما هوتنتوس وحكايتها تقول أن القمر أرسل القملة يوما لتعد الإنسان بالخلود عبر رسالة تقول”كما أموت وفي مماتي أحيا” فصادف أرنب بري النملة في طريقها ووعد بنقل الرسالة غير أنه نسيها وأبلغ البديل الخاطئ لها ” كما أنني أموت وفي مماتي أفنى ” فضرب القمر غاضبا الأرنب البري على شفته التي ظلت مشقوقة منذ ذلك الحين.
حملت النصوص الدينية تصورات تكاد تكون متماثلة ولو تغيرت لغتها وتفاصيلها إلا أن غياب القدرة على منع الموت والفداء للبشرية والحضور الطاغي لفكرة القدرة الكلية و فكرة الوعد بعالم آخر جعلت من الموت ذاك المعبر نعم المخيف والمؤرق ولكنه الضروري فعلى سبيل المثال ذكر سليمان في العهد القديم أن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون أما الأموات فلا يعلمون شيئا ” لا عملَ ولا اختراعَ ولا معرفةَ ولا حكمةَ في القبرْ” الجامعة 9 (5-6-10)
أما في العهد الجديد فقد ورد ” لأنّنا نعلمُ إنْ نُقضَ بيتُ خيمتنا الأرضيّ فلنا في السموات بناءٌ من الله ، بيتٌ غير مصنوعٍ بيدْ ، أبدي” كورنثوس 1:5
ويدلل القرآن في مواضع شتى عن الموت لكن بدلالة القدرة الكلية لله دائما وحتمية الرجوع إليه” كيفَ تكفرونَ بالله وكنتمْ أمواتاً فأحياكمْ ثمَّ يميتكمْ ثم يحييكمْ ثمّ إليهِ تُرجعونْ” البقرة 28
” أيها الموت انتظر حتى أعد حقيبتي فرشاة أسناني وصابوني وماكنة الحلاقة والكولونيا والثياب ” وأعلن في مكان آخر هزيمة خصمه الموت بمنجزات البشر وخلودها “هزمتك ياموت الفنون جميعها”، لكن ما حضر في نهاية المشهد هو إصرار الشاعر على ملكية عالمه الحسي عبر تكرار كلمة “لي” في نهاية النص حيث استوى عند درويش البحر والهواء الرطب وحذوة الفرس والحفرة ذات المائة وخمسة وسبعين سنتمترا والرصيف وما عليه من خطى وسائل منوي.
أما أنسي الحاج فربما اختار عنوانا على درجة عالية من الذكاء لمجموعة شعرية لا تتحدث عن موت واحد بل عن ميتات لا حصر لها ” الموت يأخذ مقاساتنا” في عبارة شديدة الايحاء تضمر فيما تضمره معنيين محتملين الأول يصور لنا الموت كخياط ماهر يأخذ أبعاد جسدنا بعناية من الكتفين مرورا بمحيط الخصر والورك الى أسفل نقطة فيه أما المعنى الثاني فمن المحتمل أن يشير الى بروكرست في الأسطورة اليونانية والذي كان حدادا يقوم بمط أجساد الناس أو قطع أرجلهم بما يتناسب مع طول السرير في إشارة من الأسطورة لرغبة إنسانية لتحويل الناس الى قواالب متشابهة ، لكن أنسي الشاعر المبدع يبسط المسألة ويعقدها في آن معا حين يصف الموت: ” ذلك الثقل الذي نحس به في أعلى الذراع قد يكون الأثر الباقي لخوف عطل المخيلة”.
“أنزل درجة ثانية والفجر يغرد في أنشودة تحرير الممر”.
“ما من بيت بنيناه يدوم والفراشة ما إن تخرج من شرنقتها حتى تموت” .