القصة الحائزة على تنويه لجنة مسابقة أبجد بدورتها الثالثة
ارت عجلة الحياة… دهست كل الأحلام… أدمتها وأدمتني… لكنني كنت عنيداً… مصراً على أن أحلم… كل يوم… بالأحرى كل ليلة… فما عاد في يومي وساعات يقظتي متسع للحلم… صار النوم الفسحة الوحيدة المتاحة للأحلام في حياتي… لكنني لم أنتبه إلى التصحر البطيء الذي راح يغزو لياليّ فيفقدها نضارة النوم الذي راح يتقلص ويتراجع، يوماً إثر يوم، أمام ما راح يتعملق من أرزاء الحياة في طريقي وفوق كاهلي!! أستيقظ باكراً… أحاول أن أكتب فكرة قد تكون لبنة أولى في قصة… أحاول أن أقرأ في كتاب… أتذكر يوم كنت قادراً على هذا قبل أعوام, وأكاد أبكي عندما أجد نفسي عاجزاً عنه الآن… أتناول الفطور سريعاً, ثم أرتدي ثيابي سريعاً أيضاً… أنسى كالعادة تمشيط شعري الذي بات, مع التقدم في السن, أقل من أن يلاحظ الناس إهمالي له, وأنسى حلاقة ذقني, أو أتذكر لأتناسى متعمداً!! أقضي النهار في وظيفة ترغمني على مقابلة الناس بكل ما فيهم من طمع وسطحية وغباء وعناد, وأتطلع بكثير من الشوق إلى اليوم الذي سأتركها فيه إلى غير رجعة… يومها لن أنظر إلى الوراء… سأصرخ عند خروجي من ذاك الباب الصدئ مثل جنين, معلناً بدء حياتي الجديدة… سأمسح قدميّ قبل خروجي عبر عتبة ذاك الباب كي أنظفهما من كل ما علق بهما عبر عشرات السنوات… سأنظف روحي, وأعيد رتق تمزقاتها, وأفرد ذراعيّ لأعانق الضياء خارج تلك العتمة!
بعد الوظيفة أسارع إلى سيارة الأجرة التي أقودها من الظهر حتى منتصف الليل, لأقبض من صاحبها ما يسند سقوطي في أيام الشهر الكثيرة التي يعجز مرتبي الكسيح من الوظيفة عن إسنادي فيها, لأضطر في تلك السيارة وفي الجزء الثاني من يومي إلى مقابلة الناس من جديد, كأنني مع كل كلمة لي مع أحدهم ومع كل نظرة إليهم ومع كل شعور بقربهم الثقيل أتلقى ضربة سوط, أو طعنة ً في الصدر أو في الظهر, أو أتناول سماً زعافاً… أما الطعام فلا أجد متسعاً من الوقت لتناوله إلا في السيارة التي أقودها أثناء انتظاري لزبون أو أثناء انطلاقي بحثاً عنه…
أعود إلى البيت منهكاً… أرتمي فوق فراشي مثل قتيل أصابته رصاصة في القلب مباشرة, لكنني أتذكر عملي الليليّ المتأخر وعجلة أصحابه… أجرجر نفسي إلى طاولة العمل, وأبدأ التدقيق اللغوي لكتاب تافه لولا حاجتي إلى أجرة تدقيقه ما قرأته ولا التفتُّ إليه!! هل فرضت دور النشر ذوقها الرديء على الناس ليقرؤوا هذه التفاهات التي تنشرها عن الطبخ والأبراج والسحر وغيرها؟! أم أن الذوق الرديء لدى الناس وسطحيتهم فرضت على دور النشر الاهتمام بمثل هذه المواضيع؟! وهنا أسأل نفسي سؤالاً لا أجرؤ على أن أسأله لأي من أصحاب دور النشر الذين يطلبون مني التدقيق مقابل أجور زهيدة يسمونها رمزية, كي لا يتنبهوا إلى فكرة قد تقطع رزقي عندهم: ما حاجة أناس يقرؤون هذه الكتب إلى تدقيق لغوي؟! أنا على يقين بأن من يقرأ كتاباً مثل هذا الذي أقرؤه لن يميز بين اسم وفعل أو بين فاعل ومفعول به! وما يزيد الطين بلة, ويسكب زيتاً فوق ناري ليذكيها ويوتر أعصابي ويرفع ضغط دمي, هو مشاريع التخرج والرسائل الجامعية التي أدققها, فأجد كثيراً من كاتبيها، الواقفين على أبواب شهادات الدراسات العليا والدكتوراه, أميين أكثر من جدي الذي لم يفتح كتاباً في حياته!! أعمل ساعة أو أكثر, حتى تتداخل الأسطر وتتصارع الكلمات في عينيّ وأجد نفسي عاجزاً عن الاستمرار سطراً آخر, فألقي نفسي في فراشي لأنام وأهنأ بأحلامي, متّكلاً على ساعتي البيولوجية كي توقظني باكراً كما في كل يوم… حتى في أيام العطلة كنت أستيقظ باكراً كالمعتاد, لأستلم السيارة من صاحبها الذي يقضي عطلته دون عمل, فأعمل بذلك مناوبتين متتاليتين طوال النهار وإلى وقت متأخر من الليل, فلا أنال من العطلة إلا اسمها…
هكذا كانت تدور أيامي منذ أعوام, وكنت أظنها ستستمر في الدوران ذاته طوال أعوام قادمة, لكن… حدث ما لم يكن في حسباني! فخلال أيام, وبالمصادفة البحتة, أتاني عمل مضاعف, سواء في الوظيفة, أو على سيارة الأجرة, أو في التدقيق اللغوي… هكذا فجأة جاءت كل المهمات دفعة واحدة… مهمات جديدة في الوظيفة ألقيت أعباؤها فوق كاهلي وحدي, على الرغم من وجود أربعة موظفين آخرين في قسمي مهمتهم الوحيدة عدّ الذبابات التي تحوم فوق رؤوسهم لمدة ساعة لا أكثر قبل أن ينصرفوا دون حسيب أو رقيب… مرض السائق الثالث الذي يستلم السيارة مني, ما أعطاني فرصة العمل ساعتين أو أكثر على السيارة… عدد من الكتب والرسائل الجامعية التي جاءت دفعة واحدة لتدقيقها… قدّرتُ أن هذه الموجة غير المسبوقة ستنتهي في غضون أربعة أيام أو خمسة, فشجعت نفسي على بذل المزيد من الجهد, وعلى السهر فترة أطول على الرغم من أن ساعات نومي لم تكن تتجاوز ثلاث ساعات يومياً… قلّصتها إلى ساعتين في اليوم الأول, ثم إلى ساعة واحدة في اليوم الثاني, ثم قررت إلغاءها في اليوم الثالث مع إحساسي بضيق الوقت!! وعلى الرغم من شعور الرضا الذي ينتابني عندما أغرق في إنجاز عمل ما, إلا أن هذا الرضا تعكر بغيره مما راح ينتابني من مشاعر سلبية, أشدها لسعاً وألماً ما أتهم به نفسي من طمع بقبولي لكل هذا العمل الإضافي! ناسياً في اتهاماتي حاجتي إلى أن أبقى حياً أياماً إضافية من شهر الموت المتجدد كل يوم في انتظار المرتب الذي يأتي بحياة وهمية لا تدوم أكثر من يومين أو ثلاثة, ثم شعوري بالعبودية وأنا أقبل في الوظيفة أعمالاً إضافية مرهقة, كان من المفترض أن تكون من نصيب أولئك المدعومين أو المستزلمين المتسيبين الذين لا يجرؤ أحد على محاسبتهم, ثم اضطراري إلى مقابلة المزيد من الناس مع المزيد من العمل سواء في وظيفتي أو في سيارة الأجرة, ثم تأتي المصيبة الكبرى… النعاس… وما أدراكم ما النعاس؟!! نمل خفيّ يتسلل تحت الجلد… يشل العضلات… يصل إلى الدماغ فيخدره… يتهاوى الرأس فوق الطاولة في الوظيفة, فأستفيق مذعوراً متمنياً أن لا يكون أحد قد انتبه إلى سقطتي تلك! النعاس عدو مباغت… ضبع غادر لا يهاجم إلا من الخلف… يسدل العينين لحظة واحدة, فتتهاوى صلابة العنق ليسقط الرأس فوق مقود السيارة لأنتفض كالممسوس خوفاً من حادث كان وشيكاً… النعاس… النعاس… ما لا أستطيع أن أصفه… يأتي في كل لحظة غير مناسبة… بين كلمة وكلمة أخرى اكتشفت فيها غلطاً وأردت تصحيحه, لينسيني الغلط والتصحيح!! وكنت أصبّر نفسي… ألجأ إلى الأغاني الصاخبة التي أكرهها في راديو السيارة… إلى شرب القهوة فنجاناً يتلو فنجاناً… إلى رشق وجهي بالماء كي أستعيد نشاطي… إلى… إلى… حتى أتمكن من إتمام مهامي الطارئة خلال أيام, أعود بعدها إلى ساعات نومي القليلة وإلى أحلامي!! النعاس… لأيام… يحاصرني أقاومه… يهاجمني أصده… يتسلل خفية يجد يقظتي وحاجتي إلى إتمام عملي بالمرصاد… إلى أن انقضت الأيام… خمسة أيام كما قدّرت… أنجزت التدقيق اللغوي المستعجل وأوصلته إلى أصحابه… عاد زميلي المريض وقد شفي ليتسلم مناوبته المتأخرة في قيادة السيارة… الآن صار بإمكاني العودة للنوم ثلاث أو أربع ساعات يومياً, لكن الإرهاق الذي أصابني جعلني أبحث عن المزيد من الرفاهية, لذلك قررت الحصول على إجازة يوم أو يومين من وظيفتي أقضي خلالهما الوقت حتى الظهيرة نائماً, تعويضاً عما فاتني, فالوظيفة هي الجزء الوحيد الذي أستطيع أن أتملص منه دون خسارة جزء من دخلي ما دامت الإجازة قانونية ومن حقي…
وبالفعل, تقدمت بطلب إجازة لليوم التالي, وأنهيت أعمالي المعتادة الواحد تلو الآخر, وأنا أغالب النعاس وأعد نفسي بالنوم عشر ساعات على الأقل… وأخيراً رميت القلم والمخطوط الذي كنت أدققه… نظرت إلى الساعة… إنها الرابعة صباحاً… شعرت بالحماسة… سأنام حتى الثانية ظهراً… كررت العبارة, ربما كي أضبط ساعتي الداخلية, أو ربما كمظهر من مظاهر الفرح الذي بات من الصعب عليّ أن أميّزه أو أتذكره! وتسللت إلى فراشي لأتدثر بغطاء دافئ, وأنا أحسب أن النعاس الذي كان قبل لحظات يهاجم عينيّ كخلية نحل, فيجبرني على إغلاقهما هرباً من الألم, سيدفعني للنوم خلال لحظات, لكن ومن جديد جرى ما لم يكن في الحسبان!! مضت دقائق بعد أن وضعت رأسي على الوسادة حتى أيقنت أن النعاس تلاشى والنوم هرب!! تقلّبت مرات… نمت على الجانب الأيمن, ثم على الأيسر… انبطحت… استلقيت… لكن النوم ما كان ليتأثر بوضعيتي وقد بات بعيداً ومتخفياً عني!! نهضت… أمسكت المخطوط الذي تركته منذ دقائق, وبدأت أقرأ فيه, منتظراً أن يعاودني النعاس, دون جدوى… استلقيت من جديد… أغمضت عينيّ… حاولت أن أسترخي… لكن كل أعصابي وعضلاتي ظلت متوترة متحفزة في انتظار النوم الذي قد يهدّئها!! وهكذا مضت أربع ساعات من العذاب والتوسل الذليل لنوم هارب… بدلت ثيابي وذهبت إلى عملي, فألغيت إجازة اليوم وأخذت إجازة للغد, والمصيبة أن النعاس مذ وصلت إلى الوظيفة عاد إليّ أعتى وأشرس من الأمس, فرحت أغالبه كي لا يغلبني, مضى اليوم والليلة وأنا محاصر ببراثنه, إلى أن أتى موعد النوم… عندها كما في الأمس هرب النوم من جديد!! ومرت الأيام… أذهب إلى الوظيفة… أؤجل الإجازة إلى الغد, وأتابع عملي مقاوماً الإرهاق والنعاس وكل ما يأتيان به من صداع ودوار وهلاوس بدأ المحيطون بي يستشعرونها عندما أبدو وكأنني أكلم نفسي أو أجيب على سؤال لم يُسأل, لكن النوم في ساعة النوم كان يعوض عن حضوره الطويل معي طوال النهار والليل بفرار لا رجعة بعده!! وفي أيام تالية جرّبت الموسيقا الهادئة, ثم الحبوب المنوّمة لأتلقى صفعة اليقظة الإجبارية في الموعد ذاته كل يوم… وفي مراوغة يائسة جرّبت أن أقوم بما كنت أهرب منه سابقاً وليجرِ ما يجري… أن أتوسد طاولة مكتبي في الوظيفة وأن أنام ولو لدقائق, أو أن أركن السيارة على جانب طريق منعزل وأغلق نوافذها وأنام, أو أن أترك التدقيق اللغوي وأهجم من فوري عند دخولي إلى البيت على الفراش لعلي أقتنص النوم فيه قبل هربه, لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل أيضاً!!
كل آلامي أمام النعاس وتداعياته كانت لا تعادل ألماً جعلني أهوي إلى مراتب الأموات! إنه العجز عن الحلم من جديد… فالأحلام تحتاج إلى الفسحة الوحيدة المتاحة لها في حياتي… تحتاج إلى النوم بعدما صارت اليقظة أضيق على الأحلام من مشنقة, وها أنا قد حُرِمت من النوم وحُرِمت من الأحلام…