يوسف الشوفي يكتب: نهلة…. لأجلنا ! ألف مرّة أخرى

لعلّ القهر أكثر الأشياء قسمة بين البشر, وهذا ليس عادلاً .. العدل أن يكون الفرح أعدل الأشياء قسمة بين الأطفال. ربما لم نعد قادرين على اليأس أكثر ممّا يئسنا على حدّ قول درويش, وهذا ما يفسّر إصرارنا على تعرية كل شيء, بعدما نزحنا وهُجّرنا ومات الحجر قبل المشاعر.

إذن لم يبقَ سوى أملٍ يسيرُ أمام عجزنا نحو المجهول, ونحن نردد خلف خالد حسيني في رواية عدّاء الطائرة الورقية: لأجلك ألف مرّة أخرى….

لكن لماذا خالد حسيني؟ .. ربما لأنه استطاع نقل قضية الطفولة بكل أبعادها المأساوية في أفغانستان لكل أنحاء العالم, وحسبنا نقل تجربته للمقارنة مع تجاربنا من مثقفين وسياسيين وزعامات دينية وإثنية علّ بالمقارنة فائدة للغد. أفغانستان التي لم يترك بنو البشر شرّاً إلا وحفروه في أخاديد شقاء أطفالها.

القاسم المشترك بين نهلة السورية وشخصيات خالد حسيني هو الخذلان, فضلاً عن كم الشرور الأيديولوجية الدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها. أما الخذلان فهو أبعد وأعمق من الصدمة. خذلان الطفل حسان من قِبل والديه: أمّه التي تركته, وهي ابنة الطبقة المسحوقة ومصدر تفريغ لشهوات رجالات الزعامات على اختلاف طوائفهم. أما والده فهو الذي لم يعترف بأبوّته لأنه ابن غير شرعي لرجل من طبقة الباشتون الثرية المتحكّمة, والأدهى جعل حسان خادماً لابنه الشرعي أمير, حيث تلقّى حسان خذلانه الآخر منه إذ لم يدافع عنه عندما اُغتصب من أولاد سيصبحون أمراء الحروب لاحقاً, وعندما لفّق له تهمة السرقة.

لكن حسان بقي يقول لأجلك ألف مرة أخرى. ويكمل ابنه سوهراب سلسلة الخذلان عندما كان في الميتم الملجأ, ليصبّ به وغيره من أطفال الهزارة, من جديد شهوات أمراء الحرب كل قذاراتهم. وحينما يعود أمير محاولاً إصلاح ما أفسده بحق أخيه وبحق بلادٍ جمعتهم, خذل سوهراب بوعوده.. ولم يكن يملك سوى إرادة هشّة وحلم صدئ.

أمّا نهلة السورية فخذلانها شاهده العالم ولم يعترف به إلا كشهادة لوجه الله. خذلانها الأول ولادتها في خيمة نزوح إثر حرب, أو سمّها كما تشاء.. . هي رقمٌ لدى الأمم المتحدة, وسلّة غذائية لدى الدول المدّعية لمساواة بني البشر, وهي النازحة صفةً وموصوفاً هذه هويتها لدى أهل البلد.. !

خذلانها الآخر أنها وُلدت, أنوجدت في قيد أيديولوجيا دينية, صنعت القيد في كلامها وسلوكها قبل أن تُقيّد به نهلة حديداً.
القيد هو تاريخنا, صنعته أفكار السلطة الممتدة فينا لألف عام أو أكثر, وصلت بين حلقاته دماء الحلاّج والموصلّي وغيرهم, فأعمتهم عن رؤية الآخر, وهذا بدوره يُشكّل درعه وملاذه في قيد آخر ليكون والداً لنهلة أو غيرها.

هو حلقة في هذه السلسلة, لا يملك ضمن استلابه لهذا الإرث من الاستبداد إلا أن يعيد إنتاج قهره بثيابٍ جديدة. ليس تبريراً لفعلته مطلقاً .. بل القصد أنّه طالما هذا القيد متدليّاً في أعناقنا وفي أفكارنا وسلوكنا فإنه سيلتف حول يدٍ صغيرة أخرى وحول طفلٍ آخر.

وهذا هو الخذلان الآخر لنهلة … أين نحن منها؟؟؟ نحن مَن لا يكسر قيداً حتى في الكلام أو في النحو بل ونصرّ على تعرية كل شرّ, ثم نستره خوف مواجهته, على الأقل داخلنا وفيما بيننا!

خالد حسيني يمدّ أمير طائرةً ورقية وعبارة لأجلك ألف مرة .. هما رمزان لكل مثقف أو سياسي أو صاحب رأي أو مبدأ.. طائرة ورقية لكل طفلٍ يحبو ليقول: لنا انظروا إلى الأمام ودعوا قلوبكم تتمايل للرياح, دعوا الطائرة الورقية تكتب في السماء ما تشاء وتلوّن ما تشاء, أليست هذه حقوقاً لكل نهلة سورية, فأين نحن من خالد حسيني؟, أما آن الأوان لجعل حقوق الإنسان تتويجاً لثقافتنا وممارساتنا السياسية والمدنيّة, بل ومبدأً لها؟.

أمير لم يستطع مقارعة أمراء الحرب لكنه حمل معه أصدق وأجمل ما في أفغانستان والعالم, متجاوزاً قيود البشر على الأرض بسماءٍ بلا حدود, أما نحن فنكسر عظام أطفالنا في أحضاننا خوفاً عليهم..! أو نهلل لمن يغسل الدم بالدم.
نهلة صدىً سيعود في تاريخ ارتضيناه بكل بشاعته, أو الخيار الآخر بأن نطلق الطائرات الورقية كما فعل أمير مرددين خلفه لأجل نهلة وكل أطفال سورية ألف مرة أخرى.

شارك

Share on facebook