رسم يارا الدعبل

موفق مسعود يكتب: القِطّ الميت

حدث أن رأيته ذات يوم، كانت جثته ملقاة أسفل حجر الرصيف، بدا مشوهاً بشعرٍ أشقر وأبيض ملوثاً بالدم المتخثر، هممت بالصراخ : من ابن السافلة الذي دهس هذا القط ؟ لكنني تراجعت خوفاً من سخرية المارة وربما خوفاً من الصراخ في الشارع، فللكلام بصوت عالٍ في شوارع المدينة عواقب ربما تودي بصاحبها إلى اتهامات وعواقب أنا في غنىً عنها في زمن الحرب الملتبس الذي نحياه .

عبرت من فوقه فانتابتني قشعريرة سريعة، سرعان ما ولّت حين ذهبت بانتباهي نحو أصوات الباعة في السوق وهدير السيارات، وتابعت السير كالهارب المسرنم، لكن صورة ذلك القط الميت أبت إلا أن تلتصق في حدقتي، وعبثاً حاولت طردها من مخيلتي.
مضت الأيام، وبدأت أعتاد على صحبة صورته التي كانت ترافقني إلى العمل وتنام معي في الفراش وتتفرج برفقتي على صور الحرب وأشلاء الضحايا على شاشة التلفاز .. وما أصابني بالرعب هو أنني بدأت أميل إلى الصمت.
أنا الذي كنت على الدوام أتحدث بصوت جهوري واضح في جلسات الأصدقاء، ذلك أنني مقتنع بوجهات نظري التي أبنيها بعقل حار معتمداً على منهجية داخلية متماسكة جداً في التفكير وأشعرها خطيرة وغامضة، إنها قوة العقل التي في داخلي ..
مع الأيام بدأ صوتي يصبح منخفضاً بشكل ملحوظ .. كأنه يتهدّم كلما عبّرت أكثر في زمن هذا العالم الموحش ..
حتى ذلك المساء الذي قررت فيه أن أتدخل في حوار ساخن بين مجموعة من الشباب والكهول المتجمهرين في مكانٍ ضيقٍ يدخنون ويشربون خموراً رخيصة وبعضها غالٍ جداً .. كانوا يتحدثون بشكل جماعي وبدت أصواتهم مختلفة الشدة، كنت أراقبهم فكان صوت أصغرهم عمراً أعلى من أصوات الجميع، وكان الموضوع الذي أشعل حواراتهم الصاخبة هو /حرية التعبير/
أصغيت طويلاً لثرثرات لا حصر لها .. حتى قررت التدخل، تنحنحت فأصدرت حشرجة قطٍ يحتضر.. ثم بعد جهد تحدثت بصوتي الجهوري ومنهجيتي العاتية في صياغة رأيٍ دقيقٍ ومتماسك وشامل حول حرية التعبير .. كان الجميع صامتاً وينظر نحوي بعينين فاغرتين متسائلتين : ماذا تقول ؟!
كنت أصرخ ، لكن أصغرهم حدق في وجهي مقترباً وهزني قليلاً عن كتفي ثم قال : إنك تهمهم وحيداً يا عم!
كنت أصرخ محاججاً فأنا أسمع صوتي واضحاً وجهورياً، لكن لا يسمعه أحد، في اللحظة نفسها، التصق بزجاج النافذة، وجه القط الميت الذي تعثرتُ به في الطريق، بدا أليفاً في الموت هذه المرّة، وسمعته يهمس لي من خلف الزجاج :
لا صوت يخرج منك سوى حشرجة بعيدة لكائن لا يسمعه أحد .

شارك

Share on facebook