قراءة في رواية “لاتخبر الحصان” للروائي ممدوح عزام

 

( قلت ُ لأبي إنَّ واصِل لا يُحب ُّالحصان ، فقال لي : ” لا تُخبر الحصان ! ” )

 

لا تخبر الحصان: رواية الكاتب ممدوح عزام التي صدرت عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ودار سرد للنشر في طبعتها الأولى 2019. تدرسُ هذه المداخلة التقنيات السردية في هذه الرواية وملامحَ أبطالها: (حين بانتْ المنازلُ الحجرية الزرقاء ، في أعلى تل الغزلان ،كان سالم النجار متأخراً أكثر من ثمانية أشهر على الزمن الذي ذكَرَه لزوجته في آخر رسالة كتبها ، قبل أن يُنهي خدمته في خيالة الدرك، بعد عشرين عاما من العمل . ظهرتْ منازلُ آل الهدهد، ثم آل عمران ، ثم ظهرتْ في الخلفية التي كانت لا تزال تغرق في زرقة الفجر ، ملامحُ منازل آل النجار )
هذا مطلع الرواية . حيث يبتدأ السردُ بصيغة ضمير الغائب ( وهي صيغة الراوي العليم ، المتخفف من الذاتية ، والمرجعية الجوانية : ما يجعلُ سردَه أكثر موضوعية ) وحيث أسماء العائلات التي تسكن البلدة لها ظلالٌ حاضرة في عمق التاريخ ، والزمان ، واللاهوت ، والذاكرة، والمكان ،خاصة وأن الكاتبَ قد وضعَ ، قبلَ ابتداء السرد ، مقتطفاً من محمود درويش :
لماذا تركتَ الحصان وحيداً ؟
لكي يؤنس البيت ،يا ولدي
ونحن نعرفُ أن محمود درويش يقول في هذا الديوان : أطلُّ على هدهد مُتعب ٍ من عتاب الملك
وهكذا نطلُّ ، نحن القراء ، على رحابة المكان ، وعلى فضاءات شاسعة في الزمان.
( بدأت الشمس تصعد ببطء من خلف الجبال البعيدة ، حين عبرا معاً الترعة المهدمة من حجارة السور الذي يحيط بكرم الزيتون خلف الدار ..كانت الدار صامتة ، وكانت تأتي من جهة البيوت الغربية رائحة ُ خبز وجزل ، عندئذ صاح : ” يا سليمة ! ” فيما كان يترجل عن صهوة الحصان . كانت تحلمُ أنها تلدُ ، وقبل أن ترى رأسَ مولودها ، استيقظتْ مذعورة حين سمعتْ نداءه .. وحين رأت الحصان ، عرفتْ لماذا كانت تحلم ذلك الحلم . فمن جهة كانت محنة العيش لا تستطيع احتمال شِدق كشدق حصان ، ومن جهة ثانية ، أدركتْ أن الدركي المتقاعد سيعيش ما تبقى لهما من العمر في أمجاد التذكر المتبقية له من الماضي البائد ) . ينجح الكاتبُ في إقحامنا كقراء في دوامة الصراع وبدء احتدامه منذ الأسطر الأولى. وندركُ أن الحصان سوف يتنازع البطولة مع شخصيات الرواية ،إن لم يكن هو بطلها ، ليس فقط بمرموزه الذي يحيل الذاكرة إلى الإباء ، والأنفة ، والحرية ،والأصالة، والثورة بل لدوره الفاعل في الأحداث عبرَ مواقف الشخصيات الرئيسة منه . ولسوف يكون الحصان في بؤرة السرد .فبعد أن يسرد الراوي العليم أربع صفحات ، يباغتنا الكاتب بمقطع عنوانه: (كامل) يبدأ هكذا:( اصطففنا نحن الخمسة في رتل أحادي للسلام عليه . كان يقف هناك في المضافة مرتدياً جاكيتا رمادياً ، فوق قميص ملحي أبيض وبنطلون فحمي أسود وينتعل حذاء لامعا ، وقد حلق ذقنه ومشط شعره ولمعه بالبريانتين ..تقدمْنا واحدا بعد الآخر، فاضل أولاً ، تبعه نوفل، ثم أنا ، ثم جاء واصل ، ثم كاملة . وقبَّلْنا يده السميكة المشعرة )
هنا يتغير السارد وتتغير معه صيغة السرد . السارد كامل ( الابن الثالث لسالم النجار ) الذي يسرد الأحداثَ، والشخصيات بصيغة ضمير المتكلم . وهي صيغة السارد الإشكالي الذي يفتحُ الحكاية ويدخلُها ويسردها من داخلها ، صحيح أن في سرده حميمية، لكنه يسرد الشخصيات ويسرد نفسه :
أي أنه سارد ومسرود ومن هنا تبثق إشكاليته ، ومن هنا ، أيضاً يقال عنه : ساردٌ غير موثوق
ينبغي التأكيد هنا أن موقع السارد ليس مسألة نحوية أو مسألة ضمائر : إنه موقف سردي / جمالي
وإذ يلتقط كاملُ خيط السرد نرى الأحداث والشخوص من منظوره :
( وفي الباحة صفعني فاضل .. ولأنه كان أخي الذي يكبرني بأكثر من ثماني سنوات ، فقد واجهتُ قدري باستسلام حين أمرني بالذهاب الى التنور .أرغمتُ على الركوع هناك .. وطوال ما بعد الظهر رفضتُ أن ألعب مع واصل .. وكنتُ مستعداً لشتمه وتعييره باللقب الذي يكرهه : ” منغولي ” )
وإذ يتركُ كاملُ خيط السرد يلتقطه أخوه نوفل : ( أكره ذلك المخلوق الذي صار يصهل علناً .. كان فاضل يعترض على الأوامر .. ثم ينفجر بواحد منا ..ومرَّة قال لي إنه قد يسممنا جميعاً .. قال إنه سيضيف الزرنيخ إلى سطل الماء الذي يشرب منه ذلك الحيوان المعدوم الضمير.. منذ أن وصل الحصان الى هنا وأنا أسمع بين الحين والآخر شجاراً فاحشا عنيفا بين والديَّ وأرى سليمة ساخطة مهانة)
أما فاضل فيبدأ السرد هكذا : ( رسبتُ في مادتي التربية الدينية والتربية الوطنية.. وأكثر ما أرعبني هو الجهة التي تقف فيها السيدة الوالدة التي لا ترحم الفاشلين، ولا ترى في البيت بسبب ذلك سوى نوفل.. ولكني رأيت أنه يعشق ابنة الطحان .. ومنذ يومين رأيتهما معا في وادي السما ، كان ينام على فخذها وهي تمسد شعره ) . واصل أيضا ، الابن الأصغر لسالم النجار ، المنغولي ، والذي يأكل التراب :
يُسهمُ في الرواية كسارد . أولُ سرد صادر من منظور واصل ، خمسُ كلمات :
( الحياة حلوة من دون الحصان ) . واصل قادر على قراءة قلب أمه التي أقلقها وصول الحصان .
قد نرى في رواية عربية ،أو عالمية سرداً يُروى من أكثر من منظور، غير أن ممدوح عزام يستثمر الطاقات الجمالية في الصيغ السردية في حرفية عالية : فهو أسندَ السردَ المتعلق بالمكان والتاريخ والأصالة للسارد العليم في حين أسندَ السردَ المتعلق بالأحداث التي تجري في الراهن لأكثر من سارد ، وجميعهم يروون الأحداث بصيغة ضمير المتكلم (الرؤية المتصاحبة) وهذا ملمح حداثي لافتٌ يحسب للكاتب .ثم أننا حين نتأملُ ، على سبيل المثال ، في سرد فاضل : ( أذكرُ جيدا ما الذي حدث حين جاء : .. خرجتْ سليمة من التنور وهي تعصب رأسَها بمنديل أسود .كان شعرها منكوشاً تحت العصابة ، وكان وجهها معفرا بالطحين . لم يتعانقا ) ونحن نعرف من السرد الصادر من منظور الراوي العليم أن سليمة ،لدى وصول زوجها والحصان عند الفجر، لم تكن في التنور : كانت نائمة في الغرفة ( تحلم أنها تلد وقبل أن ترى رأس مولودها ، استيقظت مذعورة حين سمعت نداءه ) الكاتب ، هنا ، يهمس لنا :
لا تصدقوا كل ما يقوله فاضل ، هو سارد غير موثوق ! . نحن ، القراء ، نلتقط مجريات الأحداث وملامح الشخصيات وهي تسرد نفسها أو غيرها ، والملمح الذي لا نجده في سرد فاضل ، مثلاً، نجده في سرد سليمة أو نوفل ، إذا بالكاتب يقول لنا : لا تثقوا بما يسرده فاضل ! هذا يجعلنا نُعيدُ ترتيبَ الحكاية : يعني نشارك في بناء الرواية ، هنا تبلغ حذاقة ممدوح عزام السردية ذرىً عالية ، وأن يتيح للقارئ إمكانية المشاركة وتخيل أحداث ،وأبطال روايته فلأنه يحترم القارئ وذائقته ،وهذا في حد ذاته ملمح فني يؤكد الأصالة في إبداع الكاتب . كما أن دراسة تقنيات السرد في هذه الرواية لا يمكن فصلها عن دراسة ملامح أبطالها ، وهذا أيضاً ملمحٌ فني يؤكد براعة الكاتب، ووعيه العميق بأغراض السرد .
ما هي الأهداف العليا، الفنية والجمالية ، لهذه الرواية؟
يعني : ما الفضاءات التي تقترحُ علينا الرواية ُ، وبالتالي الكاتبُ ، أن نتأمل فيها ؟
إذا كان الحصانُ مرموزَ الحرية، والثورة ،والبطولة .. فلننظر في مواقف الأبطال من هذه الحرية :
الدركي سالم النجار، بمرموزه : ( فقدَ الأذنين اللتين يمكن أن تساعداه على الإنصات للبشر)
وابنه فاضل ، البعثي يريد أن يسمم الحصان بالزرنيخ ،وابنه نوفل ، الشيوعي ( رأيته يضرب الحصان بعصا الرفش المكسورة على ظهره) ، وأبو حسن الزعيم الشيوعي المسئول عن نوفل (حين رأيتُ كيف يصافح رتل الرفاق ..أحسستُ أن سالم النجار يقف هناك ). وفاضل يشي بأخيه نوفل في تقرير يكتبه لأمن الدولة فيعتقلون نوفل . أما سليمة حطاب ، زوجة سالم النجار فقدْ(سمعتُها تقول له من داخل فراش نومهما : ” ابعد عني !” قالت الجملة بهمس لا يخفي الكراهية ) ..
أما حال المواطنين ، الشعب فهذا هو 🙁 كانت الدير والقرى المجاورة كلها تشهد حملة مدججة بسلاح الأصل من قبل جميع لعائلات كي تثبتَ كلُّ واحدة منها جذورها.صارت كل مضافة تزدان بشجرة ملونة تقصي الغرباء وتجدد العهد مع الأقرباء)
نحن أعجَزُ من أن نكوْنَ قبيلةً فما بالك بالانتماء إلى وطن ، نحن معطوبون في ضمائرنا ،كل شيء يتداعى ، حتى في السرير تنهار علاقة الزوج بزوجته … وهكذا فإنه ، في بلادنا :
لا مكان للحصان ، لا مناخ للحرية ، لا فضاء للبطولة، هذا هو الهدف الأعلى للرواية .
وعندما حاولوا أن يكدنوا الحصان الأصيل ، وتحويله إلى بغل كي يجرَّ عربة َ بيع الخضار :
(رفسَ العَربة خلفَه بقائمتيه الجبارتين ، فكسرَ العارضة الخشبية السميكة ..ثم اندفع بقوة الحياة التي استعادها وقفز حائط السور وراح يعدو في اتجاه سهل التل الأحمر ..لم يلتفت نحونا مرة واحدة )
إن ممدوح عزام يكتبُ الحقائق الجوهرية ، الموجعة . يكتبها في سرد فني ذي رونق وزَهاء
يكتبها بإحساس عال ٍ بمسؤوليته تجاه بلاده ، وشعبه ، والحصان .
إن رواية لا تخبر الحصان إنجاز سردي وجمالي ، وهي إضافة نوعية لمشهد السرد العربي .

شارك

Share on facebook