علاء شقير يكتب: قيد مجهول وهويات مفقودة

أثارَ المسلسل السوري ” قيد مجهول ” والذي عُرض مُؤخراً على شبكة أوربت شو تايم (OSN) (اخراج السدير مسعود وتأليف محمد أبو لبن ولواء يازجي) ضجة بين المشاهدين من ناقدٍ له إلى مُعجبٍ به خصوصاً الدور الذي أداه الفنان عبد المنعم عمايري عن شخصية “سمير”.
لم أستطع إلا أن أقفَ ملياً عند المشهد الموجع والدامي في بحث (سمير ويزن) عن هوية سمير(بطاقته الشخصية) في مكب النفايات، وليتبين لاحقاً أنها ليست الهُوية الوحيدة التي فقدها سمير المواطن البسيط الفقير والمسحوق.
ثم تعود قساوة المشهدية في فرع التحقيق عندما يتساءل سمير يائساً مخاطباً زوجته: (ما عم يصدقوني! يمكن لأنه ما معي هوية؟)
سمير المواطن المقهور المهمش هو نحن وقد فقدنا هُوياتنا من الهُوية الذاتية إلى الهوية الاجتماعية والثقافية ثم الهُوية الوطنية.
وفي آلياته الدفاعية الأخيرة عن ذاته وتصدعاتها لم يكن أمامه من خيار سوى خلق الشخصية القادرة على ترميم شيء منه أمام قهره اليومي في محاولة تمويهية لحماية قيمهِ ومبادئه.
تنوعت الدراسات والمدارس وتباينت احياناً في تعريف الهوية وتكوينها ومحدداتها وعناصرها وصياغاتها وكثرت المصطلحات في تمايز الهوية من الهوية الشخصية (الذاتية) والهوية الاجتماعية والهوية العمرية والهوية الثقافية والهوية الدينية… وصولاً الى الهوية الوطنية وثم مؤخراً مصطلح الهوية الافتراضية في ظل انتشار وسائل التواصل والمجتمعات الافتراضية.
والهوية بمعناها الفلسفي هي الطابع الفريد الذي يجعل فرداً من الأفراد مميزاً عن غيره وهي شعور الفرد بذاته واحساسه بفرديته وقدرته على المحافظة على قيمه ومبادئه واخلاقياته في المواقف المختلفة.
يؤكد الفيلسوف لودفينغ فيتجينشتاين على تفرّد الهُوية ( حين نقول س ، ص متطابقين) فيقول:
” أن تقول أن شيئان متطابقان هو غير منطقي، وأن تقول أن شيئاً واحداً متطابقاً مع نفسه هو أن تقول لا شيء).
تقودنا كل التعريفات على اختلاف مدارسها ومشاربها إلى أن مبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والحريات الشخصية وسيادة القانون والديمقراطية بمفهومها الأوسع هي الحامل الحقيقي لهذا التفرد وبالتالي هي الضامن للهوية بكل أنواعها. وهذا ما لم ينعم به السوري (بعض هذه الحقوق أو كلها) منذ اعلان استقلال سوريا عام 1946 اذ بقيت البلاد في حالة صراع على المستويات الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية تمثلت في انقلابات عديدة حتى كانت الوحدة مع مصر لتتمزق على اثرها الهوية الوطنية و تتهشم الهوية الذاتية للفرد في غياب العدالة والديمقراطية.
عامان بعد الانفصال ويستلم حزب البعث (بقادة كلهم عسكريين) ليفرض بصمته بالقوة ثم بتشريعٍ دستوري وحماية أمنية على كل الأوجه الثقافية والسياسية والاجتماعية في البلد وحتى الدينية ضمن ازدواجيات فكرية بأطر متنوعة نحو طمس هُوية الفرد وتفرده وتجريده من هويته الوطنية لتصبح الجمهورية الأولى أو الجمهورية السورية أو الجمهورية العربية السورية كلها سوريا البعث في تدهور بالمفاهيم الاخلاقية والقيمية للفرد وتمكين رجال الدين وزعماء العشائر والمحسوبيات وحبس الهويات في دوائرها الأضيق واغلاق المجال امام محاولات المجتمع المدني.
● الحرب دفاعاً عن هوياتٍ هشة بهويات مهشمة:
عقد من الحرب فقد فيه السوري الحلم والطموح، وعاش وجعه وحده في تصدع القيم والمفاهيم الأخلاقية وتمييعها لم يعد الموت كالموت ولا الحب كالحب ولا الصدق كالصدق ولا هو كـ هو فغدا كتلة من المشاعر المضطربة في تكالب كل الظروف الداخلية والتغيرات العالمية من تقنية وعولمة في تحولات سريعة تسبق وعيه وادراكه تحت نير الحرب والفقر والتهجير والنزوح والهجرة اغتراباً عن الوطن والذات.
تغيرت وأفرغت المفاهيم والقيم من محتواها وهي التي طالما صارع من اجلها في محاولات لترسيخ هُويته. فلجأ الفرد إلى آليات دفاعية مرضية عديدة من نكوص عقائدي وفكري وقيمي وصولا إلى حالة التماهي بالمعتدي ثم إلى خلق يزن (ظل سمير ورجل الصراعات مجهول القيد) انتقاماً لذاته في محاولات بائسة ليقول “أنا هنا” تلك الأنا التي برعت في تخوين الآخر ورفضه والتقوقع في الهُويات الزائفة.
في كتابه ” الهويات القاتلة “يشير الكاتب أمين معلوف إلى” أن الانسان يميل دائماً إلى تقديم هويته المهددة أو التي يشعر بأنها في خطر”.
أما السوري فكانت هُوياته المهددة في اطارها الاضيق والذي تمحور حول الذات احياناً ذلك أن الدوائر صارت تنغلق عليه واحدة تلو الأخرى خلال عقد من الحرب من دون أن تتحقق أو تعبر عن وعيه أو ذاته أياً منها في ظل تنامي كل أشكال الهوية الدينية والايديولوجية والسياسية و الفكرية والعشائرية والجمعية وكل ما يخطر على بال ما عدا هُوية الذات الهوية الوطنية.
‏……………………..
الهُوية هي:
“ما نُورث لا ما نَرِث
ما نخترع لا ما ‏نتذكر
الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة!
لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف” (محمود درويش)

شارك

Share on facebook