بيان طرابيه يكتب: الثورة الليبرالية والاشتراكية- قراءة مقارنة

قبل أكثر من قرنين من الزمن، أسست الثورة الفرنسية لمعطى عالمي تجلى بشكله الرئيس، على أسس الليبرالية والحرية كأساس لعقد اجتماعي، في تأسيس الجمهوريات، بحيث لا تكون الأوطان ملكاً لأفراد أو إقطاعيات تتوارث الملكية تاريخيا، ً بغض النظر عن شرعية أو أهلية الوارث.
وحتى تلك الدول الملكية التي استعصت على التحول للجمهوريات بشكلها الدستوري، لكنها تأثرت بالمضمون الحقوقي والقانوني للجمهوريات نموذجها العصري فأطلق عليها الملكيات الدستورية، حيث أصبحت الديموقراطية وتداول السلطة التنفيذية سلمياً حقاً شعبياً تحميه القوانين الوضعية وتصونه الدساتير ما رسخ حقوق الإنسان والمواطنة.
في الضفة المقابلة، فكما استطاعت الثورة البرجوازية اختراق النظم الملكية السابقة لها دستورياً وديموقراطياً، استطاعت الثورة البلشفية الروسية قبل قرن من الآن، ترسيخ العدالة الاجتماعية، النقطة الأسمى التي سعت لمعالجتها الاشتراكية، على الرغم من قلة إنتاجها في تحقيقها كهدف سام تراكمي مع الزمن، إلا أنها أثرت في مجتمعات الدول القومية ذات الإرث البرجوازي، فسعت تلك الدول والجمهوريات لمزيد من ترسيخ حقوق الإنسان ومنظماتها الفاعلة مدنياً وإجراء الكثير من الإصلاحات المجتمعية المادية بغية التقليل أو التخفيف من أثر الفكرة الإشتراكية التي طرحتها الثورة البلشفية الروسية وأفكارها الماركسية، لتضيف حقا عاما للبشرية متقدمة على الليبرالية تجلت بوضوح في مفهوم العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة الوطنية وعدم احتكارها لصالح فئات أو شركات بعينها فأرست بذلك، وعلى مدى عقود كثيرة، المزيد من القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان والتأمين الصحي وغيرها الكثير من المكتسبات التي انعكست بشكل اكثر حضارة وإنسانية على واقع مجتمعاتها.
وكوننا لا نسعى لنقد أو توصيف ثورة بعينها سياسياً أو أيديولوجيا بقدر إلقاء الضوء على تفاعلاتها الحضارية، وإقامة مقارنة نوعية بينها، فالثورة الفرنسية لم تكن الوحيدة من نوعها، بل أتت كلحظة متدرجة في سياق التحول الأوروبي من عصر الظلمات إلى عصر الانوار، فقد سبقتها الثورة الإنكليزية وتلتها الثورة الامريكية، فيما حاولت ألمانيا وغيرها بإنجاز ثوراتها الخاصة ولكنها فشلت.
ومع هذا، فثمة اختلافات بينها يدرسها بالتفصيل غرين برينتن في كتابه “تشريح الثورة” الصادر عام 2009 عن دار كلمة للنشر، دبي، فالثورة الانكليزية أقرت بسلطة الملك وأحدثت إصلاحات دستورية وسياسية برلمانية وديموقراطية دون ذلك بمرجعية أفكار توماس هوبز في العقد الاجتماعي، بينما تفردت الثورة الأمريكية بحق الفرد المجتمعي وامكانية تغيير السلطة التي لا تستجيب لضرورات التغير حتى لو باستخدام العنف واعتماد أفكار جون لوك المدنية في ذلك، بينما كانت الثورة الفرنسية معادل موضوعي لحقيقة التغيير حيث جمعت بين طياتها ضرورة التغير على مستوى السلطة والبحث في العقد الاجتماعي كسمة مشتركة عامة تسمى الشخصية العمومية والاتفاق الرضائي الطوعي بمرجعية أفكار جان جاك روسو، التي لا تلغي الحريات الفردية بل تربطها بالقانون والمسؤولية تجاه الدولة.
التباين في نماذج العقد الاجتماعي لهذه الثورات لم يكن جوهرياً بل اجرائياً، فتدريجياً استمت معظم الدول التي تسمى اليوم غربية في اتفاق عام على قواسم مشتركة في نموذج الدولة والحياة السياسة أهمها:
1- حرية الفرد في التفكير والكتابة وابداء الرأي والمشاركة في الحياة السياسية والمجتمعية، وما ينتج عنها من حق تشكيل المؤسسات والجمعيات والأحزاب والتحالفات السياسية، بما لا يخرق القانون العام أو سمة الهوية المدنية للدولة.
2- حق الاعتقاد والانتماء الديني وممارسة شعائره في أماكن العبادة، وبالضرورة فصل القوانين الإلهية عن القوانين الوضعية التي تحكم البشر المختلفين في التفكير والانتماء الديني والمذهبي، ما نسميه اليوم بالعلمانية.
3- حق التنافس العام وممارسة العمل الخاص والملكية الخاصة، وما يتبعه من حق الابتكارات العلمية وحمايتها ودعم البحث العلم وربطه بعجلة الاقتصاد واعتماد معايير الكفاءة في فرص العمل والحياة السياسية.
4- اعتبار الديموقراطية وحرية الانتخاب والعمل المدني قاعدة دستورية تمثل الحياة السياسة للدولة، وتشكل النموذج العام لتداول السلطة سلمياً، بما يمنع تدخل المؤسسات العسكرية في السلطة ويتيح للصحافة ومنظمات المجتمع حرية الرقابة العلنية على شفافية ونزاهة العملية الديموقراطية.
في مقابل هذا، فان الثورة البلشفية تمددت في العديد من دول العالم، وشكلت نموذجاً ثورياً متسعاً، ألهم غالبية ثوريو العالم خاصة في دول الاستبداد التي لم تحقق فيها ثورات البرجوازية تقدماً، في أوروبا المسماة شرقية لزمن خلى، وأمريكيا اللاتينية وأفريقيا وأسيا.
انهيار الاتحاد السوفيتي السابق أثر على هذه الدول وتسارعت معه حلقات الانهيار في غالبية هذه المنظومات والدول، والملفت للنظر في نموذجها الحاكم هو تل الخصائص التي أدت لانهيارها الذاتي:
1- المساواة العامة بين جميع المواطنين في الحياة المادية دون احترام حق التميز والابداع العلمي وجعله كما البحث العلمي حكراً على الدولة.
2- عدم الاعتراف بحرية ممارسة الأديان، بل حجبها من الحياة شبه كلية، وانكار حق ممارسيها ومعتقداتهم.
3- احتكار العمل الصحافي والقضائي في مؤسسات الدولة، وعدم وجود عمل سياسي او مدني خارج مؤسسات الدولة والسلطة ذاتها.
4- الرئيس تنتخبه القيادة المركزية للحزب الشيوعي وقيادة المؤسسة العسكرية الحاكم، ويبقى حتى وفاته في السلطة.
لقد منحت الثورة الاشتراكية العدالة الاجتماعية مادياً لكنها قوضت الديموقراطية والحريات الفردية سياسياً ومدنياً، في المقابل أعطت الثورات الليبرالية كل صنوف الحريات ولكنها لم تحقق العدالة الاجتماعية العامة الا نسبياً، فأي المآثر التاريخية يمكن أن تشكل مستقبلاً لدول الشرق الذي نحيا به؟
سؤال برسم التاريخ والحاضر…
“المواد المنشورة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة رأي الصفحة”

شارك

Share on facebook