مداخلة “المبادرة الوطنية في جبل العرب” قدمها الأستاذ حسن الأطرش

العنوان الذي سأتحدث به هو الدلالات الراهنة للهوية الوطنية: تكتسب مثلا الهوية في الوضع الراهن أهميتها من ارتباطها بتداعيات الكارثة التي عصفت في بلادنا في السنوات العشر الأخيرة, إلا أن التبصر في هذه المسألة ينبغي ألا يبقى أسير تلك التداعيات, بل أن ينطلق من الحرص على المسألة العميقة للشعب السوري ومصير الأجيال القادمة واستلهام دروس الماضي واستقراء آفاق المستقبل، الهوية الوطنية هي بنت الدولة الوطنية التي نشأت في العصر الحديث وعكست مصالح الطبقة الوسطى وهدفت إلى إلغاء الإقطاعية وتكريس المبادئ التي ترعى هذه الطبقة الوسطى وتضمن لها الحرية الاقتصادية وتحمي استثماراتها.

لكن لم تقتصر الهوية الوطنية على هذه الطبقة الوسطى، بل عكست مصالح شعوب البلدان النامية بأكملها، ومن هذه البلدان سوريا، فهي عكست مصلحة الشعب في توحيد قواه وانتزاع الحرية وانتهاج طريق التنمية، ومن أجل ذلك كان لا بد من تعزيز مفهوم الهوية الوطنية الذي يتخطى سائر الولاءات للبنى الاجتماعية التقليدية وترسيخ الانتماء للهوية الوطنية، فلا دولة وطنية بدون هوية وطنية.

ويكتسب هذا النزول في ظروف الأمة السورية الراهنة أبعادا جديدة فإن رسوخ الهوية الوطنية في نفوس الأجيال المتعددة من السوريين شأنا عاما في إعادة بناء المجتمع وعدم انزلاقه إلى حرب طائفية شاملة، وكان له الفضل فيما قام به المواطنون من احتضان إخوانهم النازحين من مناطق الصراع إلى المناطق الأكثر أمنا، ومن بينها محافظة السويداء.

وتمثل الهوية الوطنية ميثاقا جامعا لسائر القوى الديمقراطية في البلاد، فهي تمثل الحل السياسي المنشود للأزمة السورية.

أما البعد الاقتصادي للهوية الوطنية، فيتمثل بالتكامل الاقتصادي بين مناطق البلاد كافة، ووحدة السوق الاقتصادي التي تتيح مجالا لتصريف المنتجات والتبادل الزراعي والصناعي، وهو ما ترسخ عبر مئة عام ونيف من النشاط الاقتصادي، ولا شك بأن نهوض الرأسمالية الوطنية واستعادة دورها الفاعل في الحياة الاقتصادية ومساهمتها في إعادة إعمار البلاد، إنما يدل على الانتماء للهوية الوطنية.
أما في البعد الاجتماعي للهوية الوطنية، فترسخ هذه الهوية في عقول الأجيال يشكل عنصر قوة في مواجهة أشكال الطائفية والتعصب وإعادة اللحمة الوطنية ومواجهة الإرهاب المتستر في الدين، وإلى تلك الهوية تستند منظمات المجتمع المدني، وتنظم النقابات جهودها على نطاق البلاد للتعبير عن منتسبيها والنضال لتحقيق مصالحهم.

لن نقول ان الهوية الوطنية تتعارض مع الهويات الحالية، ففي مناخ صحي من الديمقراطية وهذا شرط، تغتني الهوية الوطنية من الثقافات المتعددة التي تحتويها.

إن التخلي عن الهوية الوطنية والنكوص إلى ما قبل الدولة لا يخلف سوى الحذر من الآخر وسوء الظن به وتأسيسا للأحقاد المتبادلة التي تقود إلى النكبات، تشهد على ذلك الحرب الأهلية في لبنان والعراق والسودان ناهيك عن الكارثة السورية.

ومن شأن ذلك أيضا أن يسهم في تشكيل المناخ لتأجيج الصراعات المصطنعة بهدف تجزئة البلاد إلى كيانات الهزيلة لا تملك مقومات الدولة الحديثة ومرتهنة للدول الإقليمية، في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى دولة قوية حرة الإرادة تواجه الأطماع الدولية والإقليمية التي تحيط بنا من كل جانب، وتعيد اللحمة الوطنية إلى المجتمع الأهلي.

إن محاولة تصوير الأزمة السورية على أنها أزمة هوية يقود إلى التعمية على الأسباب الحقيقية لتلك الأزمة وعلى حاجة البلاد إلى نظام ديمقراطي يخلص المجتمع من إرث الاستبداد ويسعى إلى تحقيق أهداف اجتماعية ويحارب الفساد واحتكار الثروة.

وقد حاول الاتحاد الأوروبي منذ بضع سنوات النفخ في قربة الهويات الطائفية والإثنية وإقامة مؤتمرات للطوائف السورية كل على حدى، في مسعى مريب لحرف البوصلة عن اتجاهها الصحيح، إلا أن الرفض الواسع من المستنيرين من أبناء الجبل كان له دور هام في إفشال ذلك المسعى.

أيها الأخوة جميعا: مرة أخرى إن التمسك بالهوية الوطنية يقع في قلب الإرث الوطني الذي يعتز به أبناء جبل العرب، والتفريط به هو تنكر لما بذله الأجداد في سبيل تحرير الوطن ومنعته ليستحق جبل الدروز عن جدارة اسم جبل العرب.

إن الهوية الوطنية هي بنت الدولة الوطنية، وهي أيضا بنت الحداثة ما بعد الثورة البرجوازية في القرن الثامن عشر، ولكن هل هناك جذور ابعد أعمق طالما اعترفنا بشرط الجغرافيا لإنشاء الهوية الوطنية؟ فالجغرافيا هي قديمة جدا، والجغرافيا تنتج عوامل أعمق أيضا، هذه العوامل تتعلق بالتطور البشري وتطور المخزون الجغرافي، فهل هذا الأمر يمكن إثباته بالعلم؟

هذا موضوع متخصص أتمنى لو يتاح لي المجال في فرصة أخرى للنقاش فيه، وشكرا لكم.

شارك

Share on facebook