يوسف الشوفي يكتب: مشهد من طوابير الصمود..!

في مشهد يتكرر, يقف اثنان في طابور من طوابير الصمود, ويدور بينهم الحديث التالي:

– الدنيا تغيّرت ولم يعد فيها خير.
– لأنّ الناس لم تعد تحبّ بعضها.
– لماذا لا يصطفّون بالدور؟
– الجشع والطمع.
– إيه.. عوجة..
هكذا تُختصر الأزمات, وقد يُختصر تشكّل الكون بجملتين في مضافةٍ ما. ونعود لنملأ البرميل لكن لا يمتلئ!.
فلا نُراكم تجربة ولا يتشكّل وعي. نعود لمستنقعٍ لا يتحرّك ولا يتجدّد, والأسئلة كثيرة:
لماذا لا نتطوّر؟ لماذا يهاجر الشباب أفواجاً؟ لماذا أولادنا لا يشتاقون للمدارس؟ لماذا بتنا عائلات على شكل دويلات؟ ولماذا ولماذا؟..
قد تكون الأجوبة جاهزة فتختصر حكاياتنا ثم نعود للمشهد السابق: عوجة! لكن مهلاً إذا كنّا نعرف كلّ شيء فلماذا وصلنا إلى ما نحن عليه؟
هذا السؤال يخلق الجدل والخلاف, والخلاف من الاختلاف, والاختلاف حقّ, والجدل حقّ, ومعياره المستقبل والحقّ والإنسان. حينها لن نصل إلى السلبيّة والحياد بقولنا عوجة!.
لنعد للمشهد ونحلّله, فنحلّل ونفكّك طريقة التفكير ومرجعيّتها, علّنا نراكم شيئاً ما.
الأسئلة والأجوبة كلها أحكام قيميّة أخلاقية, وكلّها نتائج, إذن (نحن) نفكّر وننطلق من الأخلاق في محاكماتنا وفي علاقاتنا ولا ننطلق من أسئلة الأسباب, مع العلم أنّ النتائج السابقة صارت من منطق الأخلاق ذاته أسباباً. أيّ إنّنا ندور في المستنقع ذاته, كيف؟
كلامنا هو استعمالنا لمجالات اللغة ومستوياتها, والإنسان المقهور يعيش قهره وجدانيّاً, لذلك لا يرى تغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية, فيقول (لم يعد هناك خير), هذه نتيجة وليست سبباً, كذلك (لم يعد الناس يحبّون بعضهم) هي نتيجة وحكم قيمي, كلاهما ينقلبان إلى أسباب في تفسير ما يحدث لنا ومعنا, وحتّى في علاقاتنا المدنيّة والمؤسساتية.
هذه الانطلاقات الأخلاقية في المحاكمة تختزل الموضوع والأشخاص في أحكام مُسبقة جاهزة للتصنيف بين خيّر وشرير, سلفي وحداثوي, وغيرها..
تحضر هذه المرجعية بغياب ثقافة الحوار والحقوق والتي غيّبتها سلطات العسكرة والدين والأيديولوجيات على مرّ عقودٍ. حيث تنقلب المفاهيم إلى أضدادها تحت وطأة القهر والظلم والجهل. الجزء الأخير من المشهد يؤكّد ذلك؛ فالسؤال عن عدم الانتظام في الطوابير يعود بنا من جديد للنتائج القيميّة والخلقية وليس للأسباب.
إذن كيف نبرّر أنّ الجشع والطمع هو سبب عدم الانتظام في الطوابير؟ فيقول آخر: نحن شعب غير حضاري, ويردّ آخر: يستحقون البوط العسكري!.. وهذا ما يبرّر بقاء السلطة والقمع داخلنا قبل أن تكون خارجنا. لنتساءل: هل يثق الذين يقفون في الطوابير بالحصول على حقوقهم في الخبز والأرز والمازوت وغيرها؟ إذن هم يخافون على قوت أولادهم ولا يثقون بالآخر, وليسوا جشعين.
الجشع والواسطة والرشاوى والمحسوبيات هي نتائج لعدم الثقة بين المؤسسات والمواطن, وثقافة تدبير الحال من شطارة وحلال على الشاطر و(معلش هي أملاك دولة) والتكلّم بلهجة الأقوى, كل ذلك هو نتيجة لغياب ثقافة الحقوق والحوار والقانون.
هذه الثقافة تترجم ويكون مُبرّرها كلمة (عوجة) وتعبّر عن مدى اليأس الذي وصلنا إليه من عدم الإصلاح في أحوالنا. أليس تحوّلنا إلى ميليشيّات عائليّة نتيجة؟ أليست هجرة الشباب نتيجة؟ أليست الشلليّة والوصولية في التجمعات السياسيّة نتيجة؟ أليس النفور من المدارس والتعليم نتيجة؟ .
كل هذا أصبح سبباً للنتيجة ذاتها, أي المزيد من التفسّخ والانحطاط والذهاب نحو الهاوية, وبالتالي إعادة تدوير الاستبداد فينا وحولنا.
السؤال خلف الكواليس لكل مشهد مثل الذي عرضناه: ماذا بيد الناس؟ هل نلومهم لما يرتكبونه بحق أنفسهم ومستقبل أولادهم؟
كي لا نقع في مطب الحلول الجاهزة والاختزالات من جديد, لندع الشباب وهم المعنيون بالمستقبل أكثر منّا يجيبون على هذه الأسئلة. ولنلغي وصاياتنا عليهم. حسبنا أن نجرّب الحوار وأن نعيد لعلاقاتنا بأنفسنا وبالآخرين طابعها الإنساني, فنعترف بالآخر وبنسبيّة الحقيقة, ونخرج من قواقع الأفكار والمعتقدات, ونبسط ثقافة القانون وحرية الإنسان وحقوقه.
عند هذا تكون الانطلاقة بالتفكير نابعة من الحقوق واحترام الآخر, وتكون المرجعيّة هي القانون والمؤسسة, ويكون المثل الأخلاقي هو الإنسان كما كرّمه الله, ويكون المصير المشترك هو الدافع والحافز لعقد اجتماعي جديد.
لكنّ الذي يحدث نتيجة غياب كلّ ذلك هو سيادة لغة القوة والسلاح والميليشيا والعائلة والمحسوبية والقريب من ذوي النفوذ والسلطة.
هذا ما وصلنا إليه… ثم يأتي أحدهم فيقول: كل الحق على الوزير فلان.. !. تغيّر الوزراء والحكومات وبعض الوجوه الدينية ولم يتغيّر شيء, سوى أنه ازداد الانغلاق أكثر وازداد الاحباط وأصبحنا فعلاً كنتيجة: الدنيا ليست بخير والناس لم تعد تحبّ بعضها.

شارك

Share on facebook