مصطفى كليب يكتب: النافذة

القصة الفائزة في المركز الأول لمسابقة أبجد.

_ علبة كبريت؛ هذا أبلغ وصف للمكان الذي حشرنا فيه لوقت غير معلوم تماماً.

كنا نحيلين جداً, متراصين, لا تحتاج رؤوسنا للاحتكاك بالجدران حتى تشتعل. كنا نحترق من الداخل بسبب ما آل إليه حالنا, ونحترق من الخارج بسبب الحر الشديد المتولد عن ضيق المكان, الذي لم يكن يصلح أساساً لاستخدامه كقن دجاج أو كزريبة للحيوانات.
كنا تسعة عشر كائناً حيّاً, عيداناً, بشراً لا نشبه البشر, تغطي الدمامل أجسادنا, والقمل رؤوسنا. نقضي حياة لا يتخيلها ولا يعرفها إلا من مرّ من علبة كبريت تشبه هذه.
لم يحدث أن تغير معنا شيء عندما نزيد عوداً أو ننقص, مجرّد أننا نبدل ورديات نومنا, ذلك أن المساحة الضيقة تتطلب تقاسماً في هذا الشأن.
ومع ذلك كان العود رقم عشرين الذي أتوا به إلى علبتنا مشكلة بالنسبة لنا, فقد كان ضخماً وطويلاً كفاية ليزيد مآسينا مأساة جديدة, وعلامة فارقة جعلت ما تلا وجوده مختلفاً عما سبقه.
كنا مجموعة من الخائفين في مكان مرعب, لا نعرف سبباً لتواجدنا فيه سوى صوتنا الذي ارتفع مرة. نخضع لتحقيقات دورية عنيفة توحي لنا بأن هناك أسباب أخرى نجهلها.
كان الرقم عشرين مختلفاً عنا, دخل مبتسماً مع أن الدماء كانت تسيل من رأسه وأنحاء متفرقة من جسده, مبتسماً في مكان لا تنقطع أصوات الضرب وحشرجات المقبلين على الموت عن جدرانه.
استطاع بعد أن وصل إلى زاوية العلبة أن يأخذ موقعاً ويتمدد فيه حتى الصباح مخترقاً نظام ورديات النوم الذي كنا نعمل به.
لم نسأله عن شيء حينها, وكنا نظن أن الكلام مهما كان لزومه فإنه لن يفعل فعل الماء في نبتة عطشى.
ولأن الداخلين كثر, ويتبدلون بشكل مستمر فإنه بدا لوهلة عابراً لا أكثر.
كان عليّ أن أنتظر مع آخرين حتى يحين دورنا بالنوم, ومع ذلك فقد سرقتني غفوة, وأنا جالس ويلتصق صدري بركبتي. لا أعرف المدة التي بقيت فيها على تلك الحال, إلا أنني أجزم أنها كانت ستستمر لمدة أطول لولا تلك الدندنة العذبة الغريبة, التي انبعثت من الزاوية, حيث تربع الوافد الجديد وأخذ يرفق دندنته مع صوت مزعج, خلّفه حكّه لحجر صغير بالجدار.
عندما استدار فجأة وضحكة واسعة ترتسم على وجهه, كنا نحن المشاهدين المشدوهين نتابع بصمت. لقد اعتدنا بشكل عام على حالات الجنون المفاجئ التي أصابت الكثيرين, والتي يمكن تبريرها بسهولة تامة. لاحظ أن الجميع يراقبه بانزعاج وارتياب, ابتسم وألقى التحية من دون أن يحصل على ردود واضحة, بينما ظهر خلفه شكل هندسي أقرب ما يكون للمربع, بأضلاع غير متناسقة تماماً, كان قد رسمها بالحجر, وبالدم الذي كان يسيل من جرحه.
أخبرنا بصوت مرتجف يقطعه السعال بأنها نافذة تطلّ على بلادنا الحلوة, وأننا بحاجتها هنا, كون المكان يبعث على الاختناق.
حاول أن يكمل شرحه قبل أن يفتح الباب ويجروه بعنف ويخرجوه, ثم بدأ بالصراخ, صراخ لا يتوقف. خلال ذلك كان أغلبنا يبكي على حاله وحالنا, وأخذنا نتأمل نافذته المطلة على بلد جميل وحلو, كان يمكن لنا أن نحيا فيه بسلام على حدّ قوله.
عندما أعادوه مرة أخرى, وألقوه بيننا كما لو أنه أضحية غارقة بدمائها, هرعنا جميعنا إليه وحاولنا أن نكفكف دماءه بقصاصات قماشية مزقناها مما تبقى على أجسادنا من ملابس.
لكنه ومجدداً, وبابتسامة أرغم شفتيه على افتعالها, أشار إلى نافذته بطريقة أوحى لنا بها أن نأخذه إليها.
كالسمكة التي تعاد إلى الماء بعد لحظات من إخراجها منه؛ استعاد الحياة وأخذ يتنفس بعمق, ويتأمل نافذته متغزلاً بعذوبة النسمات التي تعبرها ولم نكن نشعر بها, ثم ضحك مسبباً ذلك برؤيته ضحكة الأطفال في الخارج, وكأن قلوبهم مغمورة بالسعادة.
كان يضحك وكنا مستمرين بالبكاء.
تكررت الحالة أيام عدّة, يعيدونه وهو مشرف على الموت, فترده نسمات النافذة والمناظر التي لا يراها سواه إلى الحياة.
مما صنع تلك العادة الغريبة في سلوكنا, فصرنا نجعل العائد من حفلة التعذيب يقضي ليلته كاملة بجوار النافذة.
تلك النافذة الغريبة التي كان كل واحد منّا يتخيل عالماً مختلفاً خلفها.
والتي جعلتنا في كل صباح, الصباح الذي لم نكن نميزه عن الليل إلا من خلال ازدياد الحركة خلف الباب المقفل, وبينما نسمع دندنة الرقم عشرين, التي صارت تخفف عنا آلامنا؛ نفكر في ضوء شمس النهار وحدّتها, بالنسمات العليلة التي يستشعرها من يذهب إلى عمله, بالمناسبة التي يمكن أن تكون في هذا اليوم والتي يجتمع فيها شمل الأسر..
نفكر في الحياة والحرية التي تجعل البشر يقولون ما يريدون من دون أن يوضعوا في أقفاص ضيقة أو يخشونها.
عندما أخذوا مخترع النافذة كما تعارفنا على تسميته, آخر مرة, أخبرنا أنه إذا لم يعد, لن يكون علينا انتظاره, إنما يجب أن نثبت أعيننا إلى الخارج من النافذة, لأنه سيلوح لنا بكل تأكيد.
لم نسمع صراخه في تلك الليلة, ولم ننم على دموعنا التي كانت أوجاعه تتسبب بها عادة, إلا أنه لم يعد بعدها أبداً.
أياماً وشهوراً وسنوات لا نعرف عددها تماماً, قضيناها ونحن نتنفس من النافذة, ونتشاجر على المكوث قربها, باحثين عن تلويحة, سيّما تلك التي وعدنا بها.
كنا عيداناً مسحوقة, مسجونة في زنزانة في قبو تحت الأرض, وكان عندنا نافذة تطلّ على كل العالم. كان حلمنا أن نقفز منها في يوم ما, واستمر ذلك الحلم لوقت طويل, حتى أكّد لنا تزايد الصرخات من حولنا, وفقدان اثر التلويحات في الخارج؛ أن بلادنا الحلوة كما كان يراها مخترع النافذة, ونتخيلها نحن, لم تنتظرنا أن نصل إليها, وقفزت بمن فيها إلى الداخل.

شارك

Share on facebook