ليلة احتراق العشاء ل”جميل المحمد”

القصة الفائزة بالمركز الثاني لمسابقة أبجد بدورتها الثالثة

 

دارت مرتين في المطبخ وكأنّها سفينة تتقاذفها الأمواج، سارت باتجاه الباب ثم عادت إلى مكانها، فتحت الدُرج وأخرجت كيس طحين، وظرف خميرة وعلبة ملح. عليها أن تعدّ أقراص العجين قبل عودة بناتها من دروسهن المسائية، سوف تضاعف الكميّة من أجل صديقاتهن. فتحت باب الثلاّجة وتناولت كيس السبانخ المفرومة وضعتها فوق الطاولة وشردت…
مساء البارحة شعرت به (هذا الألم) ألم شديد في رقبتها ووخز في الجهة اليمنى من صدرها، وقلبها كعصفور يريد الفرار، ملأت كأس ماء وتناولت حبتي أسبرين. أخرجت كيس طحين آخر وفرطته. سيزعل الجيران إن لم تحسب حسابهم فالبرك التي تحضرها لا مثيل لها في البلدة كلها، ورثت هذا الشغف عن والدتها. كانتا تقضيان ساعاتٍ معاً وتُعدان البرك لمطاعم البلدة ومخابزها وللولائم المقامة هنا وهناك وحفلات التعارف العائلي.

كوّمت الطحين فوق الطاولة، أحدثت حفرة في منتصفه، رمت الخميرة والملح في الحفرة ثم ملأتها بالماء الدافئ وراحت تعجنه…شعرت برغبة في البكاء لكنها قاومتها، فالبنات على وصول ولا تريد أن تفسد فرحتهن.

تابعت مزجه حتى تجانس، كوّرته وأخذت تطبطب عليه، لتنزع آثاره عن أصابعها، فبدا مثل طفلٍ صغيرٍ دون ملامح، (طفلٌ مُلقى على بطنه، وتصفعه الضربات الحنونة على ظهره ومؤخرته) خالط حزنها جذلٌ هيّجته نسمة باردة.

غطته بقطعة قماش قطني. ثم جلست تنتظر والرغبة في البكاء تراودها كما أن شوقها لأمها التي توفيت قبل أشهر يهبُّ من جديد. … كانت الأم أيضاً بارعة في إعداد العجين

أحسّت بماء مالح يصعد نحو قلبها وينحسر، رغبة بالبكاء تراودها والدموع الحبيسة مثل سجين خلف قفصها الصدري، تطرق على باب قلبها فتتظاهر بالصمم.

لا تحب ذرف الدموع حتى ولو كانت لوحدها. لكن الألم يجد عادة بدائل كثيرة فيمشي فيها كارتعاش اليدين، شحوب اللون وتعكر ماء العينين.

المهم أنها كانت تقاوم، حتى في أحلامها تبكي بدون دموع.

الجميع بكي يوم وفاة أمها، تحدثوا عن شطائرها اللذيذة، عن كرمها، عن محبتها، (الجميع ما عداها).

لكنهم ذرفوا أمها مع الدموع ونسوها بعدها بأيام، أما هي فقد صارت مثل سفينة تائهة، سفينة غادرها قبطانها وتركها في وسط البحر، سفينة تغمرها المياه لكنها تأبى الغرق. قالت لها الجارات، أنت لم تبك، تلقت تهانيهم على صبرها (لقد خسرتِ أماً لكنك ظفرتِ بحلاوة الصبر)

لم تعرف أيٌّ منهن أنّ الملوحة ارتفعت في قلبها، وأنّ السكينة فرّت منه. لم تدرك أيٌّ منهن بما فيهن أخواتها، أن عصفوراً نهِماً يتغذى على دمها، ويكبر يوماً إثر يوم، عصفور يربك نبضها برفرفة أجنحته.
(هذا كان حزنها)
رفعت القماش عن العجين وغرست إصبعها في وسطه، فترك الإصبع ندبة مكانه.

…. إذا لم تترك الندبة أثر فذلك يعني أنّ العجين قد نضج….
سمعت صوت أُمِها، وأحسّت بيدين تداعبان كتفيها وتطوقانها، بهذه الأثناء غمرتها رائحة عسلية تلامست الأيدي، تعرف هاتان اليدان، تعرف رائحتهما…

فردت ذراعيها كبطلة التايتانيك، رأت أمواجاً تتكسر، وازرقاقاً يَمّحي، وبياضاً يسطع، أخذت طاولة العجين تتأرجح على وقع أغنية هادئة وحزينة، أغنية تأتيها عبر زمن حسبت أنه مضى.
مٌدي العجين ببطء وصبر….

أخذت تراقصها وتطبع قبلة خلف أذنها، عند منبت الشعر ثم تابعت الأم ” مُدّي العجين بهدوء وحذر”

بحذر… كانت تفتش في قمصان زوجها، تقلّب القميص وتساءله عن أثر أحمرِ شفاهٍ أو شعرةٍ منسيّةٍ لأنثى عابرة، بصبرٍ وحذر وعلى أطراف أصابعها كي لا توقظه تفتح الخزانة وتتفحص القميص، (والقمصان لا تكذب)

ترتجف يدها وترجع القميص إلى مكانه، تمشي مثل بوصلة معطلّة، تائهة في بيتها يصير البيت بحراً، تسحبها موجاته في كل اتجاه، مثل دمية، ترميها الموجة للموجة ثم تهوي بها للقاع فيحط جسدها فوق أشواك ونبتات واخزة. ثم يهمد متطلعاً للفراغ.
ينتفض الجسد ويقاوم تلفظه الأعماق فتعود، تدور مرتين في الصالة تخرج للشرفة، تدق الدموع باب قلبها فتقاومها، تعود إلى الصالة، ينهار السقف بمحاذاتها، تسير بين ركامه. وكما تفعل ساحرات الحكايات، تقصد غرفة البنات فتجدهن نائمات مثل ملائكة تسحب الدببة الزهرية من بين أحضانهن الدافئة، تُغطيهن برفق، تُقبل جباههن، فيعود السقف إلى مكانه، فترتدي معطفها وتخرج.

تقاوم الحزن بالمشي والتبضع، فأفضل وصفة للنسيان إعداد الكثير من البرك (برك بالجبنة، برك بالسبانخ، برك باللحمة المفرومة مع البصل، برك بالريحان)

تتابع والدتها مراقصتها وتغمر شعرها بالقبلات، وتتابعان التمايل بينما يتعالى أكثر صوت كمان بعيد.

والآن، سوف نقطعه إلى دوائر

تدّور العجين في راحة يدها، تقطّعه إلى كرات صغيرة، تضع الكُرات لصق بعضها وتزنها بعينيها، على القطع أن تكون متجانسة، وعلى الكميات أن تكون بمقادير ووزن وحجم واحد.

…….من لا يزنُ أفعالهُ لا وزن له ……..
حين جاءت لحظة المكاشفة، نقرت الدموع على باب قلبها من جديد، هل تبكي.

أم تتعلق مثل قطة شَرِسة بثيابه؟ هل تَخمِشه بأظافرها، أو تصدر صفير كلبةٍ صغيرةٍ محزونة؟

(عليها أن تكون هادئة، ثابتة، قوية، ذات كرامة)

تقدمت نحوه وجلست قبالته، ابتعد عنها وأخذ يفك ربطة عنقه كي يتيح للكلمات طريقاً، تلعثم ثلاث مرات ثم رمى كلماته كمن يرمي جثة في نهر “هو يحب أخرى ويريد الرحيل”

لم تسمع الباقي، كان يحكي ويحكي وهي تضم يديها إلى بعضهما. بدأ الموج يعلو، ويرتطم بالأشياء وبحذائه الانيق. فكرت وهي تراقب الموج. لطالما اعتنى بأحذيته، لكن دوامة أخرى أعنف بدأت تؤرجح الأشياء، سحبت كل شيء، سحبته بعيداً، أخذ يتضاءل… ثم اختفى…

كنس الموج ما تبقى من صبر، وأخذ قلبها يطرق باب القفص بجناحيه، مثل عصفور يراقب كارثة، وكي تهدئ من روعه غرست أظافر يدها اليسرى في راحة اليمنى وخمشتها. شعرت بدم طازج ودافئ على أناملها؛ أحسّت بوخز الجرح في راحتها، وهزت رأسها بهدوء واتزان وصبر وحذر فأي حركة غير محسوبة، أقلُّ سهو سيفلت الأسير الذي يدق قلبها، (قُضيَ الأمر)

باعتباره محامٍ فقد تطوع بإنهاء كل شيء دون تعذيبها في أروقة المحاكم، وبالنسبة للبنات فلا غنى عن الأم، أما العمر الذي فات فقد فات، والقلب بيد الرب.

“شكراً لك ” قالت وهي تراقب حقيبته ذات العجلات تكرُّ فوق البلاط.

– أغمري البقدونس والسبانخ والريحان بالخل والملح.
“امرأة لا تجيد تنظيف خضرواتها ليست جديرة بحب زوجها”

حسبت أنها لن تنساه، لكن موجة بعيدة وعالية غمرته حتى صار مثل نقطة في ذاكرتها، (ثؤلول صغير). انقلبت الموجة وابتلعه النسيان.

حين أقفلت باب غرفتها، أخذت تتعرف إلى هذا الجسد الذي فارقته منذ سنة، كان الشعر قد غزاه كما يدهم الشوك أرضاً مهجورة. مررت جهاز نزع الشعر فوق قدميها،

أنهت تنظيفها فعاد لامعاً كجسد سمكة خرجت لتوها من الماء، وقفت تحت الدش الساخن قبالة المرآة الطولية، وتعرفت إلى جسدها من جديد. دعكته بالشامبو ذي الرائحة الفواحة والمثيرة والذي كانت قد خبأته في جيب معطفها، خوفاً من أن تثير شكوك البنات.
-هذ يجعلك تفوحين كزهرة ” قالت الصيدلانية ووضعته أمامها وابتسمت بخبث”
…. الآن أغلقي العجين جيداً (امرأة لا تحكم إغلاق البرك لا تعرف أن تحفظ السر)

سرُّهما خبأته في قلبها. على المرأة أن تكون مليئة بالأسرار.
كانت تضع حمالة الصدر المطرزة بورود حمراء، في جزدانها مع العطر الفرنسي هدية حبيبها في عيد ميلادها -والذي كتب عليه بنقش لا يزول fore ever). تلبس معطفاً رثاً يليق بالأرامل والمطلقات، فالبنات صرن قادرات على شم رائحة الحب.

نظرت إلى الساعة، الساعة الآن الخامسة، والعجين لم ينضج بعد. لا يمكن أخذ قيلولة، تخاف أن تترك العجين فيختمر أكثر من اللازم، وتخاف أن تشعل النار فتأخذها سُنة من النّوم ويحترق

…….لا تتركيه كثيراً فيقسو ولا تتعجلي فيصير له طعم الرمال.

في شقته تتذوق الأمان والقبل التي يغمرها فيها كل ثانيتين، ويتذوق هو البرك والأكلات التي حرمه منها موت زوجته، تسقي علب الورد، تركض مندهشة من الليونة التي في جسدها، تعود صغيرة في العشرين، تضع الكحل في عينيها، ثم تقفز أمامه مثل ظبية. يركض ويركض ولا يستطيع مجاراة رشاقتها، يفرد يديه كما كانت أمها تفعل، فتقفز نحو أحضانه، تغرس رأسها في صدره، فتنقر الدموع على باب قلبها، -دموع من كل شكل ولون. دموع فرح، دموع عتاب، دموع تريد أن تطفر كي تسأله: لمَ تأخرت كل هذا الوقت، وأين كنت؟

تغيب في قبلة دافئة، يتبعثر السؤال، يفقد شراسته وتهمس: المهم أنك هنا.
رصت البرك في الصينية، غمست الفرشاة في الزبدة الذائبة ومررتها فوق البرك الدائرية والمثلثة والحلزونية. مرة وضعت والدتها بين يديها صينية رصت فوقها دوائر من العجين، -هذا اختبار “قالت الام”

رقَّقتها ثم ملأتها، جمعت أطرافها وأغلقتها فبدت مثل ورود على وشك التفتح، أذهلها المنظر فنسيت أن تحكم إغلاقها، انتظرت عشر دقائق، ثم أخرجتها، كان الجبن قد سال منها وانداح في الصينية،

اقتربت منها والدتها وقالت وهي تمسد شعرها: لا تبكي

…. النساء اللواتي يذرفن الدموع لا أحد يحبهن، العجين الذي يقطر زيتاً يُرمى للقطط.

حين تضع رأسها فوق صدره تشعر برغبة عارمة في البكاء لكنها تحبسها، كي لا ترمى لقط النسيان والهجر، قطط النسيان تنتظر دوماً تحت نوافذ العشاق،
الذي يبكي اولاً يُنسى اولاً.

مساء البارحة ذهبت إلى بيته كانت قلقة عليه، هل هو مريض؟ هل أتى ملاك الموت ليخطفه منها؟ هل صارت الحياة بخيلة حدَّ أن تأخذ منها فرحتها الأخيرة، الرجل الوحيد الذي رأى روحها العارية وأحبها، قبل أن يلمس جسدها العاري. لا بد أنّه مريض، حسمت أمرها.

منذ أسبوع لا يرد على اتصالاتها، كتبت له في رسالة لم ترسلها “أين أنت؟ أقلق عليك كل لحظة وأنت لا تجيب.

غيوم اكتوبر تلاحقها، ونفحة هواء بارد تثير حزنها وتوقها، وتؤجج قلقها.

دخلت المبنى، ومع كل طابق كانت قطعة من قلبها تسقط؛ قلبها صار ثلجاً، نقرت على الباب ثلاث نقرات، ثلج قلبها باعد بينها وبين الباب، الذي يبدو وكأنه أصم. استحال حجراً، آلمتها يدها. انتظرت لثانية ثم رنت الجرس.

صمت…صمت مطبق…ثم حركة. ثم صمت

فتح الباب و أطلّ برأسه، اتسعت عيناه وانقبضت جبهته، ورأت نفسها في عينيه، محمولة فوق موجة مالحة، الموجة ترتفع وترتفع ثم تلقي بها في عمق بحر…من البحر ينهض و يتمايل جسد حورية تصعد للشاطئ، شعرها الذهبي يتمايل وهو يستر ظهرها النحيل، أمسكت زعانف الحورية، كي تجرها معها للأعلى لكن يدها انزلقت، هوت في القعر، ورأت محركات السفن وهي تفرم الأسماك الصغيرة، ..
. تراكم الملح على جسدها وبدأت بالتحلل.
-أنتِ؟
-هل الوقت غي.. غي…. غير مناسب؟
توارى ليستر عريه، منذ متى وهو يرتدي الثياب في حضرتها، دفعت الباب برفق ودخلت، ابتسمت ومدت يدها لمصافحة الشابة التي اتسعت عيناها ببلاهة ثم تحولت إلى تحدً سافر، ما جعل الشابة تجلس على طرف الأريكة وتطوق رقبته بذراعيها أبعد يدها بأناة، وطلب منها قهوة؟ كانت تتصرف وكأن البيت بيتها، لم ترتطم بكرسي. تحركت بثقة وحرية.

-أنا ….إنها … صد… صديقة “أجاب متلعثماً”
رفعت يدها، وأشارت “لا داعي”
أنهت قهوتها، وارتدت معطفها ثم خرجت.

بدأت تمطر بغزارة فاهتاج الأسير، خمش قلبها بأظافره، وبدأ يخط على جدرانه، أسماء الحزن التسعة والتسعين. وصلت إلى البيت، ركضت نحو بناتها وعانقتهن معاً وهي تصيح: سأصنع غداً لحمة بعجين.

نظرت الفتاتان إلى سعادتها المنفلتة بغرابة، رمت معطفها وتفقدت درج المؤونة

– لدي الكثير من الطحين…(صاحت وهي تفتش الأدراج بعصبية)

اليوم ستدهش البنات، ستخترع خلطات جديدة، ونكهات مميزة، لكن النهار بدا مثل محيط رُميت فيه الثواني تخاتلها وتراوغ وتمر بجانبها دون أن تنقضي. وما يستغرق إعداده ساعة بدا وكأنه يحتاج دهراً تجاوزت الساعة الخامسة ومازالت تعد العجين، أنهت رصّ البرك في الصينية ووضعتها في الفرن ثم أشعلت النار فقالت أمها بصوت بعيد:
…. نار زيادة تحترق البرك، نار أقل يصير لها طعم الرمال ….

لو لم تمنحه جسدها ربما بقي معها، لو راوغت، وفعلت كالشابات المدربّات، لو صهرت الرغبة في أتون روحها، وما دلته على منابع الشهد واللذة، لو أشعلت جمرة وحرقته بها ثم تركته يداوي احتراقه وحيداً، فالحب ايضاً فن، لو أوقفته عند سحر القبل والعناقات الرقيقة.

وضعت الصينية في الفرن وجلست تنتظر، وهي تفكر ..لو ولو…
رن جرس الباب، فوجدت نفسها فوق الكنبة عاقدة ذراعيها في حضنها، وقد أخذتها سُنّة من النوم، ركضت نحو المطبخ فتبعتها البنات وصديقاتهن، فتحت الفرن فملأ الدخان الاسود المكان. كانت البرك قد تحولت إلى قطع فحم سوداء.

-كان الدخان يخرج من نافذة البناء، قلقنا عليك “قالت الصغرى”

لا بأس مامي “واستها الكبرى”

انحنت أمام الفرن تحدق في البرك المتفحِّمة يلفها بذهول، الآن استيقظت من القعر، فتحت عينيها كان الملح قد غمرها، وكانت بشرتها تجعدت، سبحت بكل قوتها، كي تخرج من القعر. في هذه اللحظة حطم الأسير أبواب القلب واندلق نهر دموع، عَبَر الصالة، حطم الباب، توزع في كل الشقق والبيوت مر بالأشجار فأورقت، غسل الشوارع كما لو أنه مطر أو أنه نهر يفيض.

الجارات اللواتي سمعن انتحابها، أرسلن أزواجهن مع قائمة مشتريات مستعجلة، الأزواج الذين داسوا في برك الدموع حتى الركب، رفعوا بناطليهم وخلعوا أحذيتهم ونظروا للسماء يهمسون: خير …خير

أحضروا الطحين والحلوى للزوجات اللواتي حضّرن البرك، (برك بالريحان، برك بالعجين، برك بالشوكولا، برك بالعسل، برك باللحمة، برك بالصلصة الحارة)
حملن الصواني وطرقن الباب تباعاً، فالجارة الصامتة الصبورة تبكي لأنّ العشاء احترق.

شارك

Share on facebook