صفوان ابراهيم يكتب: وشاءت الأقدار

القصة الفائزة بالمركز الأول مناصفة في مسابقة أبجد.



ـ 1 ـ

وشاءت الأقدار أن نلتقي.. ما كنت أظن مشيئتها تتأخر إلى هذا الوقت، ما كنت أحسب أن ألتقيك بمثل هذا الوضع، انتظرت طويلاً هذه المشيئة، حضّرّتُ لكل شيء، لكل كلمة سأقولها لك، لكل كلمة سألقيها عليك، لحركة يديّ اللتين سأرفعهما في وجهك، لدموعي التي أقسمت إني لن أذرفها، لدموعك التي اتخذت قراراً حاسماً بشأنها وبعدم مسحها عن خديّك.

لم تغيّر عاداتك معي، دائماً تُفشل كل ما أخطط له، تنجح حتى وأنت في وضعٍ لا يسمح لك بالكلام أو بالرؤية.. ما أقدرك!
مضت عشرون سنة على لقائنا الأخير، مؤكدٌ قولك لو أتيح لك أن تراني: يا الله ما أسرعها هذه الأيام.

قد تكون صادقاً، سرعة الزمن أمرٌ نسبي أما الحقيقة فهي ما كنت ستراه من لونٍ أبيضَ على ذوائب شعري، وما سيدهشك من تجاعيدَ على وجهي، وما سيثيرك من قهرٍ في دموع عيوني، وما ستستغربه من ارتجافٍ وترددٍ في نطق كلماتي، الحقيقة هي نسيان يدي اليمنى للمصافحة من كثرة ما اعتادت على مسح السلالم الحديدية و الأرضيات و تنظيف المغاسل.

ـ 2 ـ

ها هي الأيام تدور يا بنَ أميّ.. أتذكر أمنا؟ أمنا التي صورّنا الله في رحمها، أمنا التي أنجبتنا من بطنٍ واحد وأرضعتنا حليباً واحداً، وكانت تروي لنا الحكايا حتى نغفو على سرير واحدٍ، آهٍ ما أجملها تلك الحكايا! أذكر أنه ما كان يهنأ لك أن تنام دون أن تختم أمنا حكاياها بحكاية(الأميرة وأخوتها البجع) تلك الأميرة التي تحدت الساحرة في حمايتها لأخوتها حتى أغضبتها فحولتهم جميعاً إلى بجعٍ أبيض بتعويذة ليس لها فك إلا أن تصنع الأميرة لكل واحد من إخوتها سترة(كنزة) من نبات(القرّاص)*1 الشائك واحتملت أحد عشرَ عاماً آلاماً مبرحة وقهراً لا يعلم إلا الله مقداره حزناً على فرقة أخواتها، أتريد أن أحكي لك عن آلامي؟ لو كنت تراني لوشى لك منظري بها.

ـ 3 ـ

ها أنا أدخل غرفتك للمرة التي لم أحصِّ لها عداً بعد المرة التي حدثت(مصادفة) وما زلت أبرر دخولي عليك بالمصادفة، والغريب أنه ما من مرة دخلت إلا ورأيتك وحدك مستلقياً على السرير تعاني الملل أكثر مما تعاني المرض! أين أولادك؟ سمعت أنه صار لديك ولدان وبنت، بالمناسبة أنا لم أتزوج وليس لديّ أولاد إذ إني عزفت عن الزواج مجبراً بعد أن تزوجت أنت من يُفترض أن تكون زوجتي وأم أولادي! كيف تجاسرت أن تفعل ذلك؟ أما كنت أخبرتك بأني أحبها؟ يا لك من أخٍ مقيتٍ! أما كفاك أنْ جردتني من حقوقي في وراثة أبينا؟ أبينا الذي ما فرقَ بيننا أبداً… أبينا الذي كان يمسك كل واحدٍ منا بيدٍ ليأخذنا إلى صلاة الجمعة فإذا بيدك تقبض على يدي كلما أتى خطيب الصلاة على سيرةٍ طيبة من سير الدين الحنيف(إنما المؤمنون إخوة*2… المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله*3… المسلم أخو المسلم، لايظلمه ولا يُسلمه*4… انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً*5… ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)

حسناً.. ها نحن نلتقي بعد عشرين سنة.. أخبرني الآن كيف حدث أن تنازل أبي لك عن كل ما يملك(الأرض الكبيرة والبيت الواسع والمعمل الذي كان في بداية تحوله من ورشة إلى ما هو عليه الآن وحتى الأموال البنكية)؟ كيف حدث كل ذلك؟ أما كنتُ أخاك الوحيد المحبب والقريب إلى قلبك؟ كيف انقلبت الأوضاع في برهة قصيرة من الزمن فإذا بي أصبح لا شيء في حياتك!، وأكثر من ذلك أصبح غريمك فتتزوج من الفتاة التي علمتَ بحب قلبي لها! وفجأة أتحول إلى لصٍ إذا ما أكلتُ من أرضِ أبي فتطردني لأصبح طريداً من أرضٍ يُفترض أن يكون نصفها لي وشريداً عن بيت يُفترض أن يكون أحد طابقيه لي ومتهماً بلصوصيةٍ يُفترض أن تكون أول المدافعين فيها عني لا أول المتهمين فتأخذ برأسي ولحيتي هاتكاً سمعتي لجريرةٍ لم أرتكبها.

ـ 3 ـ

أتظن استلقاءك على فراش المرض ووقوفي هنا( عدالة الله)؟ كلا ليس ما نحن عليه الآن بقريبٍ من عدالته… أما تراني ما زلت أجيراً حقيراً أمسك ممسحة خاصة لأمسح أرضية ومغاسل الغرفة التي تستلقي بها أنت كمريضٍ من الدرجة الأولى؟ يحتفي بك الأطباء فواحد يدخل وآخر يخرج والجميع يسأل عن أقاربك ويستغربون عدم وجودهم! ولما لا يجيبهم أحدٌ يبتسمون ابتسامات ساخرة ويتحدثون في قصة مرضك وضرورة إجراء العملية بأسرع وقت ممكنٍ، وددت كثيراً لو أجبتهم عن سؤالهم: أنا أخوه، ولكن ذاكرتي كانت تقف دائماً كعائقٍ لتمنع الإجابة، جمدّتْ لساني، ربطته، عقدته ألف عقدة ولو كان بإمكانها أن تسيطر على قدميّ سيطرتها على لساني لمنعتني من زيارتك أو من زياراتي المتكررة لك متظاهراً تارةً بمسح سريرك مرة وتارةً أخرى بمسح نافذة غرفتك، أنا شخصياً أحاول منع نفسي من الدخول، أعدُّ إلى الثلاثة، بل إلى العشرة وأحياناً إلى المئة ثم أضع نفسي تحت المساءلة: هل أدخل لأتشفى بمنظرك عن حرماني من الميراث ومن الحب ومن الحياة الرغيدة أم أني أدخل لأنك أخي، لأنني كما قلتَ لي ذات يوم: أنت صلة الرحم الوحيدة لي في العالم؟ كان عليّ أن أفكر في فظاعة هذا القول الذي يزيح ( الأعمام والأخوال) من صلة الأرحام، كيف لك أن تنسى محبتهم لنا، فرحهم بنا؟ كم لاعبونا صغاراً؟ كم علمونا حتى أصبحنا كباراً؟ كيف فاتني أن أنتبهَ إلى ذلك على الرغم من تكرارك المكثف لقول الله تعالى(…واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام..)*6؟ ألهذه الدرجة غرتك الدنيا؟ فإذا أنت بين يومٍ وليلةٍ ينطبق عليك قوله سبحانه وتعالى(فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا الأرحام)* وإذا أنت تأخذ من مثلٍ شعبي قاعدة لك وسنة في الحياة(كل الناس بعد الأهل جيران)*7 ثم ما بهم جيراننا؟ أما ربينا على أنهم الأعزاء المُوصى بهم؟ أما عرفنا عن منزلتهم أنها بمنزلة الأرحام منا حينما كان والدانا على قيد الحياة فما الذي عدا بعد الذي بدا حتى تتهافت منزلتهم إذا ما توفي والدانا؟ بالله عليك كيف صيرّتهم غرباء؟

ـ 4 ـ
الحق أقول: إنني كلما دخلت غرفتك أبصم بالعشرة بأنك ذكيٌ بل وحاد الذكاء إذ عرفت سابقاً بأني صلة رحمك الأقرب في هذا العالم فأنا لم أرَ مذ دخلتَ المشفى في حالة حرجة زوجك أو أياً من أولادك! أسمعُ بين الحين والآخر بأن أفراد أسرتك يخافون على أنفسهم من عدوى الكورونا*8 ولكن ما علاقتك بالكورونا؟ أنت مصاب بفشل كلوي حاد وبحاجة مستعجلة لأي متبرعٍ تتطابق أنسجته و زمرة دمه مع أنسجتك و زمرة دمك و تنتظر هنا على أحر من الجمر قدوم هذا المتبرع بل و تترجى قدومه كما يفعل أولادك وقد رفعوا مكافأتهم، أقصد( ثمن الكلية) لأي متبرعٍ إلى عشرة أضعاف العرض الأول.
ـ 5 ـ

مرور الزمن ليس في صالحك.. لم يكن مرور الزمن في صالح أحدٍ منا! ها قد مضى عشرون يوماً على وجودك هنا ومثلك أنا ولكن بالسنين مضى على وجودي هنا، أتصدق أيها المسمى (أخي) أنَّ أتعس أيامك هذه هي بالنسبة لي أسعد الأيام فأنا لم أحادث أحداً مذ طردتني وأراني الآن لا أنفك عن محادثتك و ذاكرتي التي تعاند لساني هي ذاتها من تدفعني إلى محادثتك بما تُجريه أمام عينيّ من شريطِ ذكرياتٍ طويلٍ للحظات عشناها سوية كطفلين في كنف والدينا وهي من تنتعش باستذكارها للحظات عملنا سوية في الأرض أو في الورشة وهي من تنتشي باستذكارها اللحظات التي كنا نسرُّ فيها لبعضنا أسرار صبانا وشبابنا.

ـ 6 ـ
آه كم من حديثٍ افتتحته معك دون أن يخرج أدنى صوت من فمي ودون أن تسمعني! هي عادتك التي ما غيرتها إذ رفضت أن تسمع مطالبتي بحقوقٍ أمر الله بها لي كوريثٍ شرعي ثانٍ، ورفضت أن تسمع تقريعي الفظيع لك حينما تزوجت من الفتاة التي أحبها قلبي، ورفضت أنت تسمع دفاعي عن تهمةٍ اتهمتني بها عامداً متعمداً متجاهلاً من أكون، حسناً.. الآن عليك أن تسمعني بل أنت مجبرٌ على سماعي لأن ما سأقوله أكثر من مهم فهو لا يتعلق بي أو بأرحامنا المشتركين وإنما يتعلق بحالتك الصحية المتردية وحديثي منقولٌ عن ألسنة الأطباء الذين يشرفون على علاجك: أنت تعيش أيامك الأخيرة، وقريباً ستعلن الأجهزة الطبية وأنابيب الأكسجة عن عجزها بتقديم أي نفعٍ أمام تردي صحتك السريع.. حسناً سأبوح لك بسرٍ خطيرٍ ولكن أرجو أن لا تستغله ضدي وألا تستعمله كرمحٍ لتطعن ظهري كما فعلت بسر حبي للفتاة: أنا مضطرٌ لتركك وحيداً، لن أنظف بعد الآن غرفتك، لن أسليك في وحدتك، لن أتظاهر بأني أمسح سريرك أو نافذة غرفتك لأتنصت إلى حديث الأطباء، هي كلمة واحدة، عسى الله أن يغفر لك قبل أن تصل(عدالته) إليك، العدالة التي لطالما انتظرتها ولطالما رجوت اقترابها منك وكم تمنيت من أجلها لو أن السنوات تُباع وتُشترى، لاشتريت منها الكثير استعجالاً لحلولها عليك ولكنني مذ رأيتك مستلقياً على هذا السرير كمريضٍ بوضع حرجٍ وأنا أخشى عليك منها، أخشى أن تُعلن على لسان طبيب ما أو على لسان زوجك أو أي ولد من أولادك الذين لم يعلموا بوجودي عماً على قيد الحياة على الرغم من اشتياقي لمعرفتهم، لرؤيتهم، لضمهم، لتلمّس ملامح وجوههم.

آهٍ كم آملت أن نلتقي يوماً، أن تجمعنا الأخوة، أن تغير الأقدار من مشيئتها فتنهي ما بيننا من خصومة وتغسل ما في قلبينا من عداء وتزيح ما في أنفسنا من حزنٍ مُعتقٍ بلم شملنا ووصل رحمنا ولكن هيهات فلم يعد ثمة متسعٌ من الوقت ليتحقق كل ذلك إذ لم يتبقَ في حياتك سوى أيام قليلة ولم يتبقَ في قلبي سوى رماد أمنيات ينتظر رياح الأقدار ليُذّرَّ في الهواء.. شفاك الله.. شفاك الله.. وداعاً.

ـ 7 ـ
حينما فتحت عيني لم أعرف أين أنا، رؤيةٌ مشوشة، بردٌ يسري في جسدي،إدراكٌ ضعيفٌ، سمع عميق، شعور مشابه لشعور من يغرق أو من يُنتشل من الغرق، يخرج الكلام من فمي ثقيلاً

ـ أين أنا؟

أحدهم يهمس في أذني:

ـ أنت في المشفى.

حاولت أن أتذكر لماذا أنا في المشفى؟ وبعد ردهة تذكرت أني فيها أجيرٌ مستخدم لمسح الدرج والأرضيات والمغاسل، حاولت أن أسأل أكثر عن سبب وجودي على السرير، لكني لم أستطع، غلبني الإنهاك والتعب، والألم والنعاس.

عند إفاقتي الثانية وكنت أحسن حالاً إذ إنّ عينيّ تريان بوضوحٍ أخي المستلقي على مقربةٍ مني وإدراكي جيد بحيث عرفت أني قد تبرعت له بكلية، وسمعي في أحسن أحواله إذ سمعتُ من الممرضة عن سبب لف وجهي بلثامٍ طبي أظهرني كمومياء فقالت لي:

ـ أنت من أوصى بذلك قبل دخولك غرفة العمليات، كأنك لا تريد أن يعرف المريض من تكون؟
ـ هل أوصيتُ بشيء آخر؟

ـ نعم.. أوصيت أن أتلو في أذنك همساً الآية التي تقول:(..وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين..)*9

سالت من عيني دمعة فامتصها اللثام الطبي مشكوراً كما فعل مع تاليات خلفها.

بعد أن عافانا الله واستقر الأطباء على نجاح عملية التبرع وضرورة فصل الأجهزة المشتركة بيننا ثم أرادوا بعد ذلك إخراجنا من غرفة العناية المشددة كُلٌّ إلى غرفة عادية، شكرني أخي ثم سألني بترجٍ من أكون؟ فلم أجب، كرر سؤاله عدة مرات فالتزمت الصمت، ولكني لم استطع فعل ذلك عندما سألني عن سر اللثام فأجبت بحرقةٍ باكياً:

ـ كي لا ترى ما فعلته بي العشرون سنة من دونك يا.. يا.. يا أخي.

شارك

Share on facebook