ربيع مرشد يكتب: تاء التأنيث الصارخة… والنون العظيمة !

البحر… و: (راء) الرعب.

 

ومنذ أقدم العصور، ومُذ بدأ الإنسان يتكامل وعيه بذاته، ويدرك ما حوله؛ كانت المرأة/الأم/الأنثى هي محور التغيير الإنساني، ومحرِّك الانتقالات البشرية الجذرية. حيث كانت تلك الأنثى تشكل البدايات الأولى لمنطلق اللّاهوت، وما كان مردوخ إلا أداة لقسم اليمّ حتى ترتفع السماء، وتبقى المياه الأولى رحم كل الكائنات. وبعدها كانت أولى الربّات، وانطلاقة الألوهة: عشتار، فينوس، أفروديت… والقائمة تطول. لأجلها شُيّدت المدن أقيمت أول المعابد، بداية من الملك سرجون الذي بنى مدينة: (بابل) لأجل الإلهة: (إنانا)، وبها سُمّيت الأمكنة، ولنا في (أوروبا) الفتاة السورية التي خطفها زيوس، ومن ثم أعطت القارة العجوز اسمها، أكبر مثال. وبعد التضييق عليها في آخر معاقلها: “جزيرة كريت”، تنازلت عن تلك الألوهة وذاك التقديس لصالح الرب الذكر المتواري في السماء وراء كتبه المقدّسة، واكتفت بالأم وقدسيتها في الدار والحقل، ومن بعدها الأخت والزوجة؛ ولنا في جبل العرب المثال الأكثر جلاء حين يُكنّى البطل المقدام بأخته صاحبة الرفعة والسمو والأنفة: سميّة أخت سلطان الأطرش. انظروا ما للزغرودة الناعمة من فعل في صدور الرجال، وما لها من سحر يجيش بالشجاعة والاقتحام.

عندما نشاهد الصبايا الجميلات من الإيرانيات يقمن بهذا الفعل العظيم، ويقصصن شعورهن على الملأ في أكثر الدول والأنظمة قمعاً لمثل هذه الحرية: غطاء رأس المرأة، فلعَمري هو الشجاعة والتحدي والقيامة الكبرى، وبه يتحرك في قلوبنا الشعور بنسيم التغيير الذي تنتظره الشعوب المقهورة.

لا شك أن تلك الإيرانيات اللواتي كان الغضب يغلي بصدورهن، لم يكن فقط يردن التعبير عنه لأجل الشهيدة: “مهسا أميني”؛ وإنما تطلعن لإيصال رسالة بليغة، لا بل أنها أشد بلاغة من كثيرٍ من الخطابات الرنّانة الجوفاء التي أصمّت آذاننا من خلال منابر الذكورة وزعيقها الفارغ، وليس عبثاً ما نُقشَ على قبر مهسا أميني: “لم تموتي… سيكون اسمكِ رمزاً”، وليس هناك أقوى من رمزية الأنثى لتكون الملهم الأول لأي تغيير، ولكل تبديل. مهسا أميني يليق بك قول المتنبي:

لو كل النساء كمن فقدنا             لفُضّلت النساء على الرجالِ

فما التأنيث لاسمِ الشمس عيب           ولا التذكير فخر للهلالِ

يبدو أن تلكم الصبايا أرَدْن إعادة كتابة تاريخ فارس القديم… والعظيم.

وفي محاولة تقاطع بين العنوانين، كان لا بد لنا من هذا السؤال: “هل الحرية أغلى من الروح؟”.

يبدو أنه نعم، وإلا كيف يقوم جمع إنساني عاقل، يُغامر ويُقامر على حياته بهدف وصوله لبلاد تحترمه وتحترم حريته؛ أكانت سياسية أو دينية أو غيرها، في زورق لا يصلح لصيادين يركب على متنه. أن يستوعب هذا العدد الغفير من الهاربين من حياة لا تصلح للبشر، فيأتي الماء المالح اللزج ويتجرَّعهم هكذا دون ان يرف له جفن!!.
كيف لهذا العالم أن يرى الأطفال تتمرغ وجوههم على الشواطئ التي لفظتهم ورفضتهم حتى النفس الأخير؟!!، دون أن يتقافز قلب الإنسانية خارج صدرها؟!!، كيف لتلك البشرية أن تبقى تدّعي حقوق الإنسان، وتتغنّى بالإنسانية على منابرها الزاعقة؟!!، ويتم عقد المؤتمرات الباذخة لنقاش موضوع طفل جائع؟!!؛ يا لكل هذه المهزلة.

من منا لم يرَ صورة النسر الذي ينتظر فناء الطفل الإفريقي جوعاً؟.

أعتقد، وأكاد أجزم بأن أحد هؤلاء الأطفال الغرقى كانوا يحلمون بسندبادٍ يأتي بسفينةٍ أكثر أماناً، وربما بالحوت الأزرق يخرج به حياً من هذا اللجّ الفظيع.

نعم؛ ما قامت به مهسا أميني، ورفيقاتها من الإيرانيات يتقاطع تماماً مع غرق ذلك القارب، بالتفتيش عن التغيير، محاولة ما لتبديل السماء.

شارك

Share on facebook