ربيع مرشد يكتب: بابا نويل الأرستقراطي

تلك الأيام الأخيرة من الشهر الأخير، من سنة ما؛ تكون أياماً مميزة. ليس ببرودتها فحسب، بل أيضاً بتحويلاتها الرقمية المُبهجة؛ إنها أعياد الميلاد ورأس السنة. والناس – طبعاً الأغنياء منهم – تعمل كالماكينات للحاق بالأطعمة الفاخرة، قبل نضوب الأسواق منها. أما العناصر الأكثر سعادة؛ فهم اللحامون وبائعو الخضار والفاكهة، بالإضافة لتجّار الثياب الجديدة، والمُفرقعات (الصينية).

استيقظ “خليل المنسي” مع العصافير المبتهجة، ومتفائلاً بهذا النهار الصقيعي، كان مستبشراً بمبيعات صاخبة الأرباح. وتوقع نضوب بضاعته الوافرة من الألعاب النارية، التي كان قد استدان ثمنها من جارهم الملتصق بجدارهم، ففكر مسبقاً أنه، وبجزء من أرباحها، سيفتتح سنته القادمة بشراء دجاجة، ليُفرح أمَّه وأخته الصغيرة باحتفال مميز؛ الدجاج كان نادر الزيارة للبيوت التي لا تمتلك حديقة مليئة بالورد، واللحوم بشكل عام، كانت مرتبطة في ذهنه -وبعمق– بتلك الحدائق؛ منذ أن زار صديق دراسته “صفوان”، ولعبا سوياً في حديقة بيته الفاخرة، وبأرجوحتها المزدوجة. وحين جاء وقت الظهيرة، نادت أم صفوان عليهما للغداء، حاول خليل الرفض، لكن أم صديقه أصرت عليه، لعلمها بفقره، وتوقعت مسبقاً -ومن رائحة فمه الكريهة- أنه قد أتى لزيارة ابنها دون أن يتناول طعام الفطور، فقبِل الدعوة برأس مطأطئ ومعدة تعتصر نفسها.
وضع خليل طاولة البيع بين تقاطع طريقين مهمّين، وكان قد سَرَى باكراً ليلحق بهذا الموقع العظيم. وقف هناك فاركاً يديه ليدفئهما قليلاً، مفكّراً بأصابع قدمه الداخل إليهما ماء الثلج المرعب، من خلال فردة حذاء كبيرة المقاس على قدمه الصغيرة، لا تشبه إلا فرس نهر فاتحاً شدقه. بدأ بتوضيب بضاعته، وبتصنيف المفرقعات من الأغلى، إلى الأرخص ثمناً.

توافدت الباعة إلى المكان نفسه، وصارت ترتب مبيعاتها: (ثياب جديدة ورخيصة)، (حلوى)، (سجائر)…الخ، وشيئاً فشيئاً، امتلأ السوق بالعنصرين الرئيسيين: فمن طرف الباعة ذوي الثياب الرثة، ومن طرف آخر الأولاد فاتني الثياب، يتخللهم الأولاد الفقراء العالقين على هامش العيد، وهامش الحياة، والذين كانوا يحتفلون بجيوبهم المثقوبة.

صار خليل يرد على المساومات بلطف بالغ، علّه يبيع بضاعته عن بكرة أبيها؛ لكن طيبة الفقر، بالإضافة إلى ذهنه المشغول بوجعٍ كبير حول ألم ألمَّ بأصابع قدمه حتى انتابها الخدر، مما منعته من بيع ما قد يوفي -على الأقل- دَين جاره الطيب، فضلاً عن الأرباح التي كان يحلم بها؛ فحين كان يرى أحد هؤلاء الأولاد، من أصحاب تلك الجيوب، ينظر بعين اللص إلى المفرقعات بألوانها الزاهية، يناديه خليل و يقدّم له مجاناً – وبكل طيبة خاطر- ما تتناوله يداه من على الطاولة: (عدة مدافع نارية)، (صواريخ ذات أصوت زاعقة)، وربما ما هو أكثر كرماً؛ قد يكون من تلك الأشياء التي تغزل بجنون، والغالية الثمن. فتنتهي الحصيلة النهائية آخر النهار، بما هو أقل من رأس المال.

كل سنة، ومنذ أن قطع عامه السادس، أي منذ أن بدأ يدرك ماهية بابا نويل، كان – وقبل ليالٍ قلائل من أعياد الميلاد – يبقى خليل المنسي ساهراً ومؤجّلاً صباحاً مؤلماً، وهو ينتظر ذلك الرجل العجوز الطيب والسمين، الذي يشع نوراً بلحيته البيضاء، حاملاً بيده جرساً ذهبياً أنيقاً، مرتدياً بزّة مُخملية حمراء، ويسبح في الفضاء، راكباً عربته الأنيقة التي تجرّها مجموعة رائعة من الأيائل الطائرة، ويوزع هدايا العيد يمنة وشمالاً, لكن عبثاً كان ينتظر؛ حتى أنه وصل لمرحلة الشك بتلك الحكاية.

ليلتها لم يعد يهتم بألم قدمه الكبير، ولا أصابعها التي أخذت لونها الأزرق المائل للسواد؛ انتظر بابا نويل بشغف العطش المنتظر ماء، وإذا به يمرّ طائراً بسيارة فاخرة جداً، لم يكن خليل يعرف نوعها، لأن خبرته (بالطيا/سيارات) كانت قليلة، لا بل أنه لم يتخيل وجود مثل هذا الشيء، حتى في تصوراته الذهنية؛ كان يرى الطائرات في التلفاز، ويعرف أنواع بعض السيارات على الأرض، ففي حيِّه الفقير كانت أكثر السيارات من النوع المصنّع بأيدٍ محلية، ذات محرك قديم جداً، تمشي على ثلاث عجلات، كهرِم على حافة قبره. أما شيء مثل سيارة فاخرة تُحلِّق، دون أيائل ولا من يحزنون، فهذا ما أذهله!.

صاح خليل ببابا نويل الذي حاول تجاهله والهروب منه؛ بابا نويل لم يكن عنده موقف مسبق منه، فهو لم يكن يعلم أن في الحياة شخصاً اسمه خليل، المُكنّى بالمنسي، لكنه انتبه لثيابه الرثة، فأشاح عنه. لكن خليل الذي انتظر كل تلك السنين ليحظى بهذا البابا نويل، لم يشأ أن يتركه يذهب هكذا دون أن يقدّم له لعبة، فصرخ به مرّة ثانية بما أوتي من قوة، حتى كاد يُشق. حط بابا نويل (بالطيا/سيارة) خاصته أمام النافذة. فوجئ خليل حين رآه رجلاً حليق الذقن والشاربين، يرتدي بدل البزة الحمراء، أخرى سوداء من النوع الفاخر، وتحتها قميص أبيض جميل ذو ياقة نظيفة مُنشّاة، ويحمل بيدٍ (غليون)، وبالأخرى ورقة صغيرة تحتوي أسماء الأغنياء من الأولاد، ولا يستطيع خفض رأسه أبداً، حتى ولو كان أمام أحد أسياد هذا الكون، وكأن رقبته كانت مصنوعة من الخشب.

تطلع إليه خليل مستغرباً الصورة البعيدة عن ذهنه سفر سنة ضوئية، فخاطبه بابا نويل بصوتٍ مغرور، ممتزج بالقرف:

– ما بالك يا ولد؟!.

– أريد هدية العيد. أجابه خليل بحزم.

لكن بابا نويل الخائف من هذا الولد المتسلط، أحس برعبٍ أشبه برعب السيد من عبيده الذين يجهزون معاولهم للانتقام. فابتعد خطوتين إلى الوراء، ثم امتطى شبحه الأسود وفرَّ هارباً، إلى بلاد بعيدة.

في المشهد الأخير: “نرى طفلاً نائماً في مستشفى فقير، بجانب سريره عكّازاً واحداً، وعلى الأرض فردة حذاء وحيدة يتيمة… وحزينة”.

شارك

Share on facebook