إعصار دهليزي ل “ناديا داوود”

القصة الفائزة بالمركز الثالث لمسابقة أبجد بدورتها الثالثة

لم يكن عبثًا الدّوار الذي أصابني، فأمّي كانت كثيرًا ما تدور في فترةِ حملها حول وردةٍ نديّةٍ، زَرَعَتْها وسط دارنا احتفالًا بنبأ حملها بي.

والغريب أنّني لمْ أصرخ أو أبكي كما كلّ الأطفال عندما شهقتُ للحياة، و الأغرب من ذلك، حين قرّبني والدي إليه ليهمسَ باسم ِاللهَ في مسمعي كما جرت العادة؛ سقطت من عينه دمعة في أذني فابتسمت!

مرّت الأعوام، وظللْتُ على هذا الابتسام، و لم أعرف البكاء يومًا، و لم يعرف طريقه إلى عينيّ، و عُرِفتُ: “بذات الهدوء الغريب”.

لن تصدّقوا ما سأقوله لكم: فعند كلّ كلمةٍ لطيفةٍ أسمعها؛ أبتسم، و ينبت في رأسي زهرةٌ بيضاء، فاضّطرّت أمّي أن تضع لي قبّعة، خوفاً من أن ينتبه الآخرون لذلك.
أخذ النّاس ينظرون إليّ بشيءٍ من الغرابة، كنتُ أعرف ما يسرّونه بداخلهم،
أعجبتني بدايةً هذه اللعبة المسلّية، فبمجرّد النّظر إلى عيونهم؛ أعرف ما يجول بخاطرهم.

يبتسم والدي، فأرى دمعته اللّامرئية، و تلك الطّمأنينة التي تكسو وجه أمّي؛ أستطيع أن أقرأ خلفها ما تكتمه من قلق! فأشعر بالضّيق و أسرحُ مجدّدًا في الصّمت.

كانت المعلّمة تناديني بالهادئة، حتى أصدقائي في المدرسة، في البيت، في اجتماعات الأقارب والجيران، و في كلّ مكان.

لا أنكر أنّني صرتُ أنزعج من هذا اللّقب، لأنّه يغطّي على صفاتي الأُخرى، حتى أنّني لا أستطيع أن أُخبرهم بتلك الميزة الفريدة، و لم يعرفوا ما أخبّئه في تلافيف دماغي.

فكلّما أُفكّر مليًّا بفكرة أو أسمع صوتاً بعيدًا قادمًا من أعماق أحد؛ أحسّ أنّ الدمعة ترتجف و تترقرق في رأسي، ليس هذا فحسب؛ بل يخرج ضوءًا خافتًا من جهة أذني!

لاحظ والديّ ذلك فسرعان ما وضعوا لي دفّاية للأذن، لإخفاء الحدث الغريب و المريب.
صرتُ أعاني و أنا ألبسها صيفًا شتاءً، لكنّ ذلك أراحني بعض الشّيء، لأنّها تخفّف من حدّة الأصوات العالية التي لا أحتملها أبدًا، و أتساءل لماذا يتحدّث الأشخاص و هم بجوار بعضهم بالصّراخ و كأنهم يتحدثون على بعد مغارتين في جبل!

توالت السّنوات و أنا على هذا الحال، لا أبكي و لا أشكي، حتّى في أصعب الأوقات.

أتعبتني فكرةُ أن أحرص على: (ألّا أُظهِر شعوري) بل أبقى صلبةً كالصّخر، لا ألتفت، بل أتّبع وصيّة والدي في دمعته.

دمعة الحكمة تلك وشوشتني: بأن أبتسم لأعدائي حتى لمن يضمر مكراً لي، فذلك منبع القوّة و التّسامي.

رويدًا رويدًا، بدأ أثرُ الحزن يتسلّل إليّ، أشعر بسخونة في جبيني و أشمّ رائحة الشمع المحترق.
أنا لا أبكي، لكنّ بريقاً غريباً يوشّح لحظَ عينيّ عند أيّ شعور.

حارَ الأطبّاء في أمري حتى اكتشفوا تحت المجهر: ظهور حبّات بلّوريّة تلمع كالماس عندما أتأثّر!

كل ّ ذلك، و مازال الأمر على ما يُرام، إلى أن صرتُ أسمع الأصوات البعيدة جدًّا و التّي تتحدّث بسوء، و صار النّاس يغالون في الاستفزاز عن قرب لاختبار صبري و قدرة تحمّلي ظنًّا منهم أنّني متلبّدة الشّعور.

أخذت الكلمات المزعجة تثقب ذهني كالمسامير، فلم تعد تنبُت الورود، بل استحالت لأشواك صفراء يابسة.

ساءت حالتي، ولوحِظَت جروحٌ تسيل من رأسي، و تحوّلت الماسات إلى حصى صغيرة تتحرّك، تجرح، و تحرق مكانها، فتتشبث أكثر، عند كلّ قلقٍ أو خوفٍ، أو حزن، كما اختفت هالة الضّوء التي كانت تومض من أذني!

وفي يومٍ ليس ببعيد، لا أدري ما الّذي أصابني جرّاء صدمة، أشبه بزلزالٍ جسديّ، عاصفة غريبة اجتاحتني، بل إعصار دهليزي، حرّك تلك الحصى.

خاف النّاس و هم يرَونها تتراءى في زجاج ناظريّ، إلى أن حصل ذاك الانفجار، فدفع بالحصى بقوّةٍ هائلةٍ خارج مقلتيّ.
المضحك في الأمر، أنّ لقبي تغيّر أخيراً، فصرتُ: “الهادئة الّتي تبكي الأحجار”، و صاروا يقولون: لشدة قسوتها؛ تبكي الأحجار!

فكلّما تجاوزتُ عن إزعاجٍ ما، سقط حجرٌ ملوّنٌ بدل الدّموع: “أخضر زّمرّدي، أحمر ياقوتيّ، و الأزرق الفيروزيّ”.

حفظتهم في صندوق صغير، خبّأته ككنزٍ عن مرأى الجميع.

أخيراً، صرْتُ إنسانة طبيعيّة!

أصرخ لوحدي فيه كما أشاء، و أستطيع أن أذرف دموعي بسلاسة على الأحجار الملوّنة فتضيء،

و أخرج إلى العالم كصخرةٍ لا تلين.

شارك

Share on facebook