علاء شقير يكتب: لماذا تستهجنون خطاب الكراهية؟

في المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات والصالونات الثقافية يكاد يخلو خطاب المثقفين أو المشتغلين في العمل المدني من عبارات التنمر أو خطاب الكراهية، لكنهم نفسهم هؤلاء وفي جلساتهم العادية تنفلت من أفواههم زلات لسان أو عبارات كانت مختبئة تحت جلد أفكارهم من أيام الطفولة من قبيل: (النسوان عقلن خفيف، دبو انت مو ارحم من ربه، كلن دمن أزرق ” في الحديث عن جماعة أو طائفة أو تجمع سكاني أو جغرافي”، ما بتعرفه لفلان، ابن حرام؟ يقطع عمره على هالشكل .. الخ) وسواء كان قائلها يعنيها أم لا إلا أنها اصبحت في بعض الأحيان كاللازمة التي لا يجب أن نستهجنها.
يُـعَرَّف خطاب الكراهية عمومًا على أنه “أنماط مختلفة من أنماط التعبير العام التي تنشر الكراهية أو العنف أو التمييز أو العداوة أو تحرض عليها أو تروج لها أو تبررها ضد شخص أو مجموعة، على أساس من يكونون، بمعنى آخر ، بناءً على الدين أو الأصل العرقي أو الجنسية أو اللون أو النسب أو الجنس أو الشكل أو الفكر أو أي عامل من عوامل هوية الآخر”.

كيف اندسّ فينا خطاب الكراهية؟

 

تتشكل هويتنا الأولى في طفولتنا المبكرة في كل ما نسمع ونشاهد، وهذه الملامح هي من أرسخ عوامل الشخصية والهوية الذاتية. وفي ثنايا حكايا جداتنا الطيبة كان الحقد والعنف يختبئان خلف السرد والحبكة والتشويق إن لم يكن الملمح الأساسي للحكاية بدءاً بقصص الوعظ التي تبدأ بطفل شقي أو غير مؤدب أو غير مطيع وكل النهايات القاسية التي لا رحمة فيها ولا شفقة التي كان يلاقيها هذا الطفل، ثم السير والقصص الدموية المبنية على الكراهية والثأر كالزير سالم، وسيرة بني هلال، والتي كنا نهلل للقتل والدماء والانتقام فيها. وبالمثل كانت بعض الترنيمات ” يالله تنام يالله تنام لاذبحلك طير الحمام” عدا عن المقارنات الدائمة ” شعراتك يا طول يا طول وشعرات … اكلوهن العجول”

سنشنق أولهم كالقطة وسنحرق ثانيهم بالنار

وسنشوي الثالث كالبطة وسنغرق رابعهم كالفار

بكل الحماس والتحدي كنا نغنيها في باحة المدرسة، لا أذكر إن كنّا قد تعلمناها في حصةٍ درسيةٍ أم أننا كنا نتناقلها من بعضنا البعض في باحة المدرسة لكني أتذكر الآن أننا أطفال الصف الأول كنا نمزق حناجرنا ونحن نهتف بهذه الكلمات في المدرسة والشارع والآن أقف خائفاً من كم العنف والحقد والتنمر والخطورة في هذه الكلمات. أما الله الذي دخل إلينا في حصة التربية الاسلامية لم يكن ليشبه الله الذي حدثتني عنه جدتي في شيء، فذاك القادر اللطيف الودود الذي يحب الأطفال صار في الدرس يتوعدنا بكل أشكال العنف والتعذيب التي تفوق خيالنا وقدراتنا على الفهم من حرق وتعليق أقراطٍ من حديد ملتهبٍ وبتر أطراف.

أوقفتْ مُدرِّسة الصف الثالث ابنها قبالتنا، قبالة أطفالٍ يرتدون ما تيسر من بقايا ثياب أخوتهم الأكبر سناً وقد ملأت ثياب بعضنا الشقوق والرتوق، ثم زعقت بنا أريدُ هندامكم نظيفاً أنيقاً مكوياً كهندام ابني الجميل (كانت مريلتي يومها بلا أكمام ذلك أنها اهترأت تماماً من منطقة المرفقين فآثرت أمي وخبيرات الخياطة من جاراتنا بتر الأكمام)

ومنذ ذلك الحين حتي أيامنا هذه لا تتوقف عن التكرار اليومي حوادث السخرية من نماذج معينة من التلاميذ كالكسول والمشاغب والفقير ..الخ أمام زملائهم في كل مناسبة أو فرصة.

وكلما كبرنا أكثر كانت تكبر معنا شتائمنا وعبارات التنمر التي نكتسبها في مقارعات الفقر وحروب أطفال الشوارع التي كنا نفتعلها، ونغذي عدوانيتنا هذه من أحاديث الكبار ورواياتهم وخلافاتهم وتصنيفاتهم العشائرية والقبلية والعائلية وفي كل روايات الأنساب والأصول وأحقيات السيادة والتفوق والسلطة والعطف الالهي لفئة على حساب الأخريات. وكان لأذاننا الصغيرة المراهقة أن تلتقط قصص الشرف وجرائمها وبطولات منفذيها الذين غسلوا عارهم ولا سيما عندما يكون القاتل “البطل” من عمرنا أو أصغر بعد أن وضع اهله في يده ما يمكّنه من أن يُردي امرأة قد تكون أمه أو أخته قتيلة ويغسل بذلك عار وشرف أسرته.

ارتدينا البدلة العسكرية من غير حربٍ، ذاهبين إلى مدارسنا في المرحلة الاعدادية التي تكللت بالثقافة العسكرية وأدوات القتل والابادة والموت والسحق للعدو واداته المجرمة عصابة الاخوان المسلمين العميلة ونحن لا نعرف لا من هم الاخوان ولا من هي العميلة، لكنا كنا نردد شعارنا الصباحي نسحق .. سنسحق .. من؟ المهم اننا قادرين على سحق احدهم وفي ذلك شعور بالتفوق.

في الدرس لم يكن إرثنا الأدبي أصلح حالاً ذلك أننا لم نكن لنفصل بين المعامل الفني القوي والمضمون الذي لا ينسجم مع معاييرنا بعد عشرات القرون، ففي الوقت الذي نتعلم فيه ضرورة إكرام الضيف نقرأ كيف أن عمرو بن كلثوم أردى ضيفه ” عمرو بن هند” قتيلاً في بيته وهو في ضيافته بعد أن طلبت أم الأخير من أم القاتل طاسة الماء، ثم ألحق جريمته بقصيدة فيها الفخر والمفاخرة بحاله وحال أهله وذم الآخر وتجريحه. كنا نتناول كل هذه المآثر بروح زمانها وقلما كانت كوادرنا التدريسية قادرة على ايصال جمالها الفني من دون الكم الكبير من الحقد والعنف والكراهية والدم الذي فيها في سياقه الزماني والتاريخي.

وليست قصائد الهجاء بين شعراء الجاهلية والعصر الاسلامي التي درسناها بأفضل حالٍ من حيث ما تحتوي من عنصرية وتنمر وخطاب كراهية نفاخر بما قالوا حتى يومنا هذا وقلة منا يعلمون مثلاً أن جرير والفرزق على الرغم من كل ما وصلنا من تحف الهجاء التي قدحوا بعضهم فيها إلا أنهم كانوا أصدقاء. لكن لماذا لم تصلنا نحن قصائدهم بالروح التي كانوا يطلقونها على بعضهم من باب الجزالة من دون أن يفسدوا للود قضية في بعض الأحيان. فبعد كل الذي كان بين الفرزدق وجرير من هجاء قام جرير برثاء الفرزدق بقصيدة أشد اثراً من كان ما قالاه من الهجاء مطلعها:

لعَمرِي لَقَدْ أشْجَي تَمِيماً وَهَـدَّهَا * * * عَلَى نَكَبَاتِ الدَّهْرِ مَوْتُ الفَـرَزْدَقِ
عَشِـيَّةَ رَاحُـوا لِلفِـرَاقِ بِنَعْشِـهِ * * * إلَى جَدَثٍ فِي هُوَّةِ الأَرْضِ مَعْمَـقِ

لَقَدْ غَادَرُوا فِي اللَّحْدِ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي * * * إِلَى كُلِّ نَجْـمٍ فِي السَّمَاءِ مُحَـلَّقِ

وعلى كثرة الأمثلة وتنوعها في ارثنا الأدبي والمتخمة بخطاب الكراهية، لا يمكنني أن اتناسى قول المتنبي:

لا تشتري العبد إلا والعصا معه *** إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد

بعد الطفولة والمراهقة صرنا نتشرب خطاب الكراهية في كل مناحي حياتنا. في الجامعة التقينا بالآخر بعضنا تقبله والبعض الآخر صار باحثاً في كل جذور الخلافات الطائفية والمناطقية لكن هذه المرة بمباركة إلهية ودعم مقدس. وبالمثل كان حالنا في العمل وفي خدمة العلم إلى أن جاءت هذه الحرب التي نبشت كل نفايات بواطننا تلك التي أسستها طفولاتنا من الحقد والكراهية والتنمر والعنف دفعة واحدة.

وفي هذا المقام لا أسوق المبررات هنا، إنما هي تفاصيل صغيرة تتأصل في أفكارنا من دون وعي بها تكبر معنا وتطفو على السطح عند أصغر المحكات، فكيف لنا أن ننقذ أو نساهم في تشذيب أفكار أطفالنا من هذه السموم؟ خاصة وقد صارت منافذ هذه الآفات أكثر تنوعاً وقدرة على الوصول والتسلل الى داخل الطفل وهويته العامل على تشكيلها.
أما كيف تصلنا هذه الخطابات فليس من الصعب مثلاً ملاحظتها في أبسط التفاصيل كمحطات الأطفال التلفزيونية أو اليوتيوب وخصوصاً العربية منها. أسوق أمثلة على بعض الأغاني التي تتضمن خطاب كراهية (على سبيل المثال لا الحصر)
-في حكاية النملة والصرصار تحزن النملة لحال الصرصار ثم تطرده مع عبارة ” روح روح يا كسلان بفصل الصيف شو سويت “

-أما في حكاية الراعي الكذاب تعلو الشماتة بحال الراعي الذي اكلت الذئاب قطيعه في تكرار المقطع ” يا شهاب يا كذاب بتستاهل أكل الذئاب ”

-في مطلع أغنية عن طفل يلعب بأعواد الثقاب ” عامر أبداً مو شاطر بلعب بالكبريت” .. تنتهي الأغنية ب ” عامر والماما والبابا بطّل عندن بيت كلو على شان عامر بلعب بالكبريت ”

هذه الأمثلة تعود لمحطة واحدة (طيور بيبي) لكن باقي المحطات ليست بأفضل حال (بل فيها أحياناً الكثير من الأفكار الظلامية التي تروج لها) والأمثلة قد لا تنتهي من الحالات الغير مسؤولة وغياب كل اشكال الرقابة الاجتماعية والنفسية والتربوية عنها. وما هي إلا نافذة صغيرة من بين عشرات النوافذ التي تطل على اطفالنا حاملة لهم أشكالاً مختلفة من العنف والتنمر وخطاب الكراهية بقوالب بريئة وجذابة وملونة ومغرية، وجبَ علينا محاربتها وحماية أطفالنا من سمومها .. كي لا يكبر أحد منهم يوماً ويسأل: لماذا تستهجنون خطاب التنمر والكراهية؟

شارك

Share on facebook